مجلس التعاون سمعنا قعقعة ولم نر طحنا
مجلس التعاون سمعنا قعقعة ولم نر طحنامجلس التعاون سمعنا قعقعة ولم نر طحنا

مجلس التعاون سمعنا قعقعة ولم نر طحنا

تاج الدين عبد الحق

مضى الزمن الذي كانت فيه القمم الخليجية حدثًا سياسيًّا مهمًّا، لا للدول الأعضاء في مجلس التعاون فقط، بل لدول الإقليم والعالم. كانت القمة تعقد في أجواء احتفالية تحشد لها إمكانيات من كل نوع، بدءًا من تحضيرات وزارية ترتب أجندة الأعمال، ومرورًا بترتيبات أمنية تليق بأهمية الحدث وأهمية المشاركين فيه، وانتهاءً بالتسويق الإعلامي الذي يتجاوز في تطلعاته وآماله النتائج الفعلية التي كانت تنتهي إليها القمم المتعاقبة.

نحن أهل الإعلام كنا نحدث "القعقعة" التي يسمعها الناس ويتداولونها، كبشير للطحين الذي ينتظرونه مما يدور في أروقة تلك القمم. لكننا في واقع الحال كنا نراها فرصا للقاء بعضنا بعضا، وقضاء سهرات طويلة تمتد حتى مطلع الفجر، نتسلى بها بأحاديث ذات شجون، خلال فترة الانتظار الطويل، لما كنا نعتبره "دخانا أبيض" يأتي من القاعة التي يجتمع فيها قادة المجلس.

كانت الاجتماعات في معظم الأحيان، تعقد في أماكن بعيدة عن المقر الذي يقيم فيه الصحفيون، وكانت تلك الأماكن تتحول إلى حصون أمنية معزولة حتى عن الصحفيين الذين لا تتاح لهم، في العادة والغالب الأعم، الاختلاط بالوفود الرسمية، لاصطياد وتقصي الأخبار، وما يدور بين المجتمعين من مناقشات، وما يبحثونه من موضوعات.

عندما تأسس مجلس التعاون في مايو من العام 1981 كانت منطقة الخليج في عين العاصفة. فطبول الحرب العراقية الإيرانية، يتردد صداها في أركان المعمورة، فيما ترتعد الأسواق العالمية من انعكاسات هذه الحرب على أسعار النفط، وبالتالي على الاقتصاد العالمي ككل.

كانت دول الخليج في ذلك الوقت الرافعة التي سندت النظام العربي الذي كان آخذا بالتشظي تحت وطأة عزلة مصر، وتهديد إيران، والحروب الأهلية المتزايدة، لتتغير نتيجة ذلك، أو على وقع الآثار التي خلفتها، أولويات الدول العربية واهتماماتها.

كانت دول مجلس التعاون بما تملكه من إمكانيات، وما تتمتع به من طاقات، وما تتحلى به من انسجام سياسي، وترابط اجتماعي صيغة عمل مبشرة.

قليلون هم من نظر إليها كصيغة انعزالية، وشكل من أشكال الانكفاء على الذات، خاصة أن دول المجلس واصلت دورها الفاعل في العمل العربي، بل أصبحت بيضة القبان في كل قرار، وفي أي مناسبة.

لكن مجلس التعاون، كان ابن البيئة بامتياز. فتعبير المجلس في أدبيات التراث العربي التقليدي كان يوصّف الإطار الذي يبحث فيه الشأن العام، وهو بهذا المعنى كان صيغة مناسبة لمجتمعات وأنظمة لا تواجه تحديات وضغوطا كتلك التي كانت تواجهها دول المجلس عشية قيامه.

فالمجلس كمصطلح، يوحي بالبطء في الأذهان، وهو مرادف للاسترخاء والتريث بل والتردد، الذي لم يكن يتوافق مع الحاجة الملحة إلى تنظيم مؤسسي قادر على مواجهة التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي كانت تواجه دول المجلس في تلك الفترة.

كان البعض يرى في المجلس صيغة لتذويب الخلافات البينية داخل منظومة المجلس، لنكتشف مع تقادم التجربة أن هذه الخلافات تتفاقم، والتباينات تزداد. كانت الآمال قوية بخلق تجمع سياسي وأمني لحماية المنطقة من المخاطر التي تحيط بها من كل صوب، لنكتشف أن كل الصيغ الأمنية التي تم التوصل إليها ظلت هشة ولا تتناسب كمًّا ونوعًا مع مستوى ما يتهدد دول المنطقة. ولذلك لم تستطع دول المجلس أن تخلق صيغة بديلة تعوضها أو تستبدل بها تحالفاتها الخارجية.

ظن البعض أن الإمكانيات الاقتصادية الهائلة التي تراكمت عبر سنوات الطفرة النفطية قادرة على خلق منظومة عمل وسوق خليجية موحدة، لنكتشف أن أفضل ما تم التوصل إليه في هذا الصدد تعرفة خليجية موحدة أو فرض ضريبة مبيعات متزامنة. حتى القرارات المتعلقة بالمواطنة الاقتصادية الخليجية جاءت في أحيان كثيرة متخلفة عما كان لدى الدول الأعضاء من روابط تاريخية، أو أنها جاءت متأخرة، إذ بدأت هذه الدول بإعطاء تسهيلات استثمار وفرص تملك للوافدين من كل الجنسيات بمن فيهم مواطنو دول من خارج المنظومة الخليجية.

على أعتاب القمة الخليجة الثانية والأربعين التي تستضيفها الرياض نستذكر أن مجلس التعاون بصيغته الحالية، وبآليات عمله التي يسير عليها، يضيق باستمرار، بحيث لم يعد قادرا على احتضان ما يتطلع إليه أبناء المنطقة وما يعلقونه عليه من آمال. فما حققته الدول الخليجية منفردة من إنجازات ومكانة سياسية وأمنية واقتصادية، أكبر بكثير من كل الآمال التي علقها الخليجيون على مجلس التعاون عند قيامه منذ ما يزيد على أربعين عامًا والذي ما زال يتعثر في تنفيذ الكثير منها.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com