العجوز الذي رآنا عرايا
العجوز الذي رآنا عراياالعجوز الذي رآنا عرايا

العجوز الذي رآنا عرايا

محمد بركة

كنت على موعد مع مندوب وكالة عقارات لاستئجار الشقق حيث تراسلنا عبر الرسائل النصية القصيرة للموبايل و اتفقنا على موعد للزيارة و المعاينة في تلك العاصمة الأوربية الباردة . كان المندوب يجيد - على غير العادة -الانجيليزية في مدينة فرانكفونية بامتياز ترفع شعار " بونجور " طوال اليوم . يدعى جون بيير و يدعونه من باب الدلع " جي بي " . كان ينهى كل رسالة معي بعبارة " صديقي " . لمسة ود لم أشعر معها بالارتياح أنا العربي الساذج المسكون بضجيج الانطباعات المسبقة و نماذج " ستريو تايب " ، إذ ربما كان الرجل ليس على ما يرام بعلاقته بأبناء جنسه و تثير خياله قصص الف ليلة و ليلة ، أو ربما كان يطمع في " زبون لُقطة " قادما من وراء البحار و لا يفقه عن البلد و اسعارها و قوانينها شيئا . كنت بصحبة الرجل الذي يروي شجرة سبعينيته بقوة و ثقة و عود مشدود مثل صفصافة على ترعة بدلتا النيل . عرفت فيما بعد أنه كان حكم كرة قدم في شبابه . كان لا يزال متبقيا على موعدى بمناسبة وطنية تقيمها احدى السفارات العربية ببروكسل ساعة كاملة حيث سيأتي سائق بسيارة لاصطحابي .

- صديقي ، أستطيع الحكم على الناس من نظرة واحدة . و أنت شخص جيد . أنا أقول لك .

كان واضحا أن العجوز البلجيكى بحاجة ملحة للحكي .

أن يفتح جرحا قديما و يتحدث بحرارة لا تناسب البرود المتوقع من أصحاب العيون الزرق و الشعر الأشقر .

اكتشفت أن تلك الشقة الرائعة و المناسبة للغاية في السعر هى مخصصة فقط للطلبة الذين يلتحقون بجامعة قريبة من هنا . صدمة مفاجئة خففت منها حميمية حكاء بارع كان لديه هو الاخر المزيد من الوقت .

- صديقي ، أصبحنا بالكاد نتعرف على بلادنا . أنا أسكن بشمال البلاد . الأفارقة بكل مكان . نخشى الان التجول في الشوارع بعد الثامنة مساء مثلما كنا نفعل قبل عشرين عاما . و العرب - اعذرني صديقي - هم قوم رائعون و الكثير منهم بمنتهى اللطف ، لكنى أفتقد بلدى كما عرفتها و نشأت بها !

- فيما تحديدا يزعجك العرب ؟ تكلم من فضلك و انس أنني عربي ..

- أنتم تأتون هنا هربا من الجوع و الفقر و الحروب . منكم لاجئون سياسيون . ومنكم مهاجرون . و لسنا لدينا مشكلة ، لكن أول ما تفكرون به هو بناء مساجد ، فهل أستطيع أن أبنى كنيسة ببلادكم عندما استقر بها ؟ معلوماتي أن مواطنيكم من المسيحيين أنفسهم لدهم مشاكل ببناء الكنائس ، فماذا يكون مصيري أنا الأجنبي ؟ لقد عشت بشبابي أزمة نقص الفحم و حاجتنا الملحة للتدفئة بعد الحرب العالمية الثانية .و أذكر كيف فتحنا الحدود لفقراء ايطاليا ليأتوا عمالا في مناجم الفحم حيث اضطرت الحكومة أن تبنى لهم مدنا كاملة يعيشون بها ، والنتيجة أن بلادنا تغيرت آنذاك ، منا من قال إن التغيير كان للأسوا منا من قال بعكس ذلك ، لكنى أكاد أجزم أن الجميع سوف يكون على قلب رجل واحد و رأي واحد ونحن نراكم معشر العرب و الأفارقة تواصلون التدفق الينا .

كان اسمه جون بيير .

و يدعونه جي بي من باب الدلع .

كان صريحا دون فجاجة ، و واضحا مثل شعاع شمس صحراوية يطل شتاء .

لكنه كان أيضا متعبا .

زوجته توفيت منذ أسابيع و يبيع الثرثرة في أسواق راكدة حتى لا يفكر كثيرا بالموت .

جي بي ..جي بي !

خسرت شقة رائعة و ربحت صديقا بمدينة باردة

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com