فراشة زرقاء في قلبي
فراشة زرقاء في قلبيفراشة زرقاء في قلبي

فراشة زرقاء في قلبي

وئام غداس

أولاً أنا لا أفرّق بينك وبين بطلكَ سيء المزاج غالباً، الضامر والنحيل والذي لا أعرف اسمه ذلك أنك لم تذكره أو تلمح إليه طوال الرواية، رواية "الفراشة الزرقاء"، ربما هذا شيء آخر جعلني أصدّق أنه لابدّ أنت، بطلك المخلص بشدّة لذكرى جدته "زهية"، الحزين بسبب امرأة يحبها وهجرته، الرافض والمعاند لدورة الحياة ذلك أنه لا يصدق الموت، وجدّته التي تعيش في خياله مثلما رسمت نفسها من خلال حكاياتها، الصبية الصغيرة القصيرة الفقيرة، صاحبة النظرة الثاقبة المتأتية من حكمة فطرية، الجدة التي بلا رائحة بشرية ولا حتى آثار بشرية ليس من السهولة بمكان أن يقول في كلامه عنها "جدتي"، فهل كان البطل غير المسمى أنت؟

كم عاماً حتى الآن؟ أتساءل أحيانا وأنا أعيد قراءة رواياتك التي توقفت عن كتابتها منذ ما يقارب الخمسة أعوام، هل يخطر لك أن أشخاصاً كثر ينتظرون محصول عزلتك هذه بشغف المحبّ المنتظر بصبر أن يهلّ عليه محبوبه، وأن عزلتك لو تمثلتها باباً يفصلني عنك فثق أني أقف خلفه منذ أعوام أرهف السمع وأرصد التحركات، لكن لا صوت، فأينك؟ هل خطر لك كم طالت غيبتك؟ أمّا هذه الغيبة ذاتها عندما أشطح بتشاؤماتي فأقول قد تكون قطيعة بينك والرواية فإنني حتما سوف أفضّل أن تطول كما تشاء على أن تكون قطيعة بلا رجعة، سأستجمع شجاعتي لأقول أن هذا مفزع بالنسبة لي، ثمة دائما كاتب يكتب أحداً بشكلٍ ما، لقد كنت تكتبني، وهذه لو تعلم مشقّة عظمى.

أما لماذا أتخيل أنك اتخذت قرارا بترك الكتابة فلأن بطلة الرواية ذاك الذي بدأت به، كان مزاجيا إلى حدٍّ فظيع، بل ومُتخلٍّ كبير عن أشياء يحبها، هادئ ومجنون، مازوشي بامتياز يحلو له أن يُعذّب نفسه بالفقدان والخسارة، ليس أحبّ على قلبه من الوحدة والحرية عنده هي مثلما قال درويش متعة أن لا تنتظر شيئا ولا أحدا بل وطالبا أن ينساك كلّ العالم "فأشهد أني حرّ وحيّ حين أُنسى." لذلك أنت غالباً في ذهني على هذا النحو: غرفة باردة بأثاث بسيط، في بيت بعيد جدا أو في قلب مدينة، متمددا على سرير، مشعلاً سيجارة في الظلمة، رائحة الشاي الذي بدأتَ في إعداده تصل إلى أنفك، تتخيل فقاقيع المياه المخلوط بالشاي وهي تتصاعد من قعر الإبريق، تستمع لصوت أمطار خفيفة في الخارج، تفكّر أن عليك إشعال لمبة الغرفة الصفراء وتفكّر في أشياء قاسية لم تغادر قلبك، وأشخاص بعيدون، لو كان لصوتي مقدرة الوصول إليك لهتفت بك وسط كل هذا: ضع الآن أوراقاً على الطاولة المقابلة، وأكتب الآن.. الآن رواية!

الفرنسي "بروسبر بورتاليس" قضى حياته مقتفيا أثر فراشة زرقاء خرجت من الشرنقة أمامه ولم يرها لسوء حظه أحد سواه، رآها وكانت زرقاء وصعدت إلى السماء وكان يرى الضوء يخرج منها، ثم اختفت، تلاشت متحولة إلى قطعة من السماء، منذ ذلك اليوم وهو محطّم بسبب ذلك، الضوء أيضا كان يصعد أمام عيني من كتبك، لكني على عكس بروسبر لم أكن أراها لوحدي، أناس كثر رأوا ضوءك، هم مثلي الآن متوجسون ويعدون الشهور والأعوام، هل من نهاية لهذه العزلة؟

ربيع جابر الكاتب اللبناني الذي لم يمتلك يوما حسابات في مواقع التواصل على تنوعها،

الذي كان يدخل في اعتكاف سنويّ ليخرج بعده بكتاب، كل عام كتاب وكان حسبنا منه هذا، لكنه اليوم بلا آثار منذ سنوات طويلة ولا أحد يعلم تماما السبب، بينما العالم تعصف به الروايات، تسونامي روايات، جهنم روايات، وأي روايات!! يا الهي رحمتك.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com