دبلوماسية ما بعد الأيديولوجيا
دبلوماسية ما بعد الأيديولوجيادبلوماسية ما بعد الأيديولوجيا

دبلوماسية ما بعد الأيديولوجيا

تاج الدين عبد الحق

الذين يُفاجَأون ببعض التحركات والاتصالات الدبلوماسية، والزيارات الخارجة عن سياقاتها المعروفة، أو تسمياتها المصنفة، هم أولئك الذين تعودوا على الدبلوماسية التقليدية الثابتة، التي لا تستجيب للمتغيرات، وتتحسب كثيرا لردود الفعل لكل قرار سياسي، أو تحرك دبلوماسي.

وبعض المتابعين للعبة الكراسي الموسيقية في الدبلوماسية الإقليمية والدولية حاليا، يجد صعوبة في تفسير المواقف، وتبدل المواقع والأدوار وتقدير النتائج والأبعاد، فالخلافات السياسية التي حكمت علاقات دول المنطقة البينية، كادت تتحول إلى تحالفات. والقطيعة التي وقعت بينها في مرحلة من المراحل، تتحول إلى حوارات ساخنة ولقاءات دافئة، دون أن يكون هناك معلومات كافية عن أسباب القطيعة، أو مبررات واضحة وراء وصْل ما انقطع.

والمؤكد أن العلاقات السياسية لم تعد محكومة بالمسلمات الأيديولوجية، والأفكار المسبقة، ولم تعد هناك خطوط حمراء، أو محرمات في تلك العلاقات، وباتت التحولات في المواقف السياسية تحولات مرنة، مرتبطة بالمصالح أكثر من ارتباطها بالأفكار المجردة، والمصطلحات المكررة.

واللافت أن وسائل الإعلام، ومنصات التواصل الاجتماعي بشكل خاص، ظلت على هامش المشهد الدبلوماسي، شرحا وتفسيرا، وكان الإعلام في كثير من الأحيان مبالِغا في توصيف أي قطيعة، وفي الإشادة بأي تحالف للدرجة التي أصبح فيها الكثيرون أسرى لما يُطرح في الإعلام لا ما يدور في مطابخ السياسة.

في ضوء ذلك يمكن فهم التحول الذي شهدته علاقات دولة الإمارات العربية المتحدة ببعض دول الإقليم، أو خارجه؛ فعلى الرغم من أن للإمارت تحالفات وأولويات، إلا أنها احتفظت بنوع من المرونة السياسية، وبهوامش تحرك واضحة، في علاقاتها بتلك الدول، أعطت لدبلوماسيتها نكهتها الخاصة، وصبغتها المميزة.

الإمارات التي قامت سياستها على بناء علاقات توازن محسوبة، وكانت تواجه الكثير من التحديات في مرحلة التأسيس، تجد بعد الشوط الكبير الذي قطعته في مجال البناء والإعمار، وفي نسج العلاقات والتحالفات السياسية، أنها في وضع يمكّنها من الاختيار والمفاضلة بين ما هو متفق مع مصالحها وتطلعاتها، وبين ما هو عائق أمام تلك المصالح والتطلعات، ولم تعد تخشى أن تدفع ثمن اختياراتها السياسية وتحالفاتها وصداقاتها عزلة دبلوماسية، أو عقوبات كالتي وقعت بعض الدول ضحية لها بسبب سوء الاختيار، أو بسبب رعونة القرار.

وأكثر من ذلك فإن الكثير من دول الإقليم باتت تجد في تجربة الإمارات السياسية والتنموية نموذجا يُحتذى وقدوة تتسابق في التقرب منها، لا للسير على منوالها فقط، بل للاستفادة من النتائج التي تحققها على أكثر من صعيد.

وفي هذا الإطار بات الحوار بين الإمارات وشركائها في الإقليم والخارج، حوارا متفاعلا، المرونة فيه مطلوبة من الطرفين، والتنازلات _إنْ كان ثمة تنازلات_ متكافئة في الجانبين، بل إن الثمن الذي يمكن أن تدفعه الإمارات في أي حوار متفاعل مع الدول الأخرى يظل أكثر تواضعا من الأثمان التي يتعين على الآخرين دفعها؛ فالسياسات التي أدت في بعض الأحيان إلى توتير الأجواء في المنطقة، لم تكن من صنع الإمارات، ولم تدفع هي الثمن لتصحيحها وتعديل مسارها.

ما شهدته علاقات الإمارات في السنوات القليلة الماضية، والتي كان البعض يظن أنها تضيف عبئا على سياستها الخارجية، يجعلها تحصد اليوم نتائج واضحة إنْ على صعيد بناء شبكة راسخة من العلاقات السياسية، أو على صعيد بناء منظومة من المصالح الإستراتيجية، التي تعطي للإمارات دورا أكبر ومكانة أرفع في الساحتين الإقليمية والدولية.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com