من الخطاب الأيديولوجي إلى العمل المؤسسي
من الخطاب الأيديولوجي إلى العمل المؤسسيمن الخطاب الأيديولوجي إلى العمل المؤسسي

من الخطاب الأيديولوجي إلى العمل المؤسسي

تاج الدين عبد الحق

مع استثناءات قليلة، تفقد المعارضة السياسية في العالم العربي طعمها، ناهيك عن تأثيرها. وباستثناء مرحلة التحرر الوطني التي كان لها أهداف واضحة، فإن السجل التاريخي لكل قوى المعارضة في العالم العربي، يشير إلى أن معظم التنظيمات والأحزاب العربية، سواء تلك التي استولت على السلطة، وتسيدتها بعد خروج المستعمر أو تلك المعارضة، لم تستطع أن تكون بديلا مقبولا في الحكم، ولا خصما شريفا في المعارضة.

ففي مرحلة المد القومي واليساري، تحولت الأحزاب الأيديولوجية التي كان يعول عليها البعض، وينظر إليها كقاطرة تقود عملية التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي، إلى مظلة باهتة لموجة انقلابات عسكرية استأثرت بالسلطة، واحتكرت القرار السياسي والأمني، مرة بحجة تحقيق العدالة الاجتماعية، ودائما بحجة التفرغ لعملية التحرير، والتوحد أمام الخطر الخارجي.

وضمن ذلك الجو المشحون بالخوف، الذي أدى إلى تجريف الحياة السياسية ومنعها من القيام بأدوارها الطبيعية، أُطلقت آلة الفساد، لتجريف الموارد الاقتصادية الشحيحة، وحولتها إلى ملكيات خاصة تتناقلها الأجيال التي تعاقبت بالقوة على السلطة ، وجعلت الموارد المحدودة مرتعا للفساد، ومصدرا للثراء غير المشروع، دون وازع من ضمير، ولا رادع من قانون.

وما إن غربت شمس تلك المرحلة بكل إخفاقاتها وانكساراتها، حتى ظهرت على السطح القوى الدينية كقوى سياسية طامحة، تجسدت فيما اصطلح عليه بالصحوة الإسلامية، فحاولت تلك القوى استنساخ تجربة الأحزاب القومية، من حيث السعي للاستئثار بالسلطة، والعمل على احتكارها، ومصادرة خيارات الناس وحصرها في خطاب سياسي فضفاض عنوانه الدين، وهدفه الحقيقي السلطة بكل صورها السياسية وأبعادها الاقتصادية والاجتماعية.

اليوم يعيش العالم العربي مرحلة تحول جديدة، بعد انحسار دور الأحزاب السياسية ذات الخطاب الأيديولوجي سواء أكان خطابا قوميا أم طرحا دينيا، وبعد خروج معظم القوى الحزبية التي ارتبطت بأشخاص أو أيديولوجيات من المسرح السياسي، عندما فقدت البريق الذي أحاط بخطابها وأهدافها ورموزها.

مرحلة التحول الجديدة -لا شك- مرحلة صعبة ودقيقة، لا بسبب العبء الكبير الذي تحمله من الماضي البعيد والقريب فحسب، بل بسبب الشكوك الموروثه من التجارب الماضية، التي تُحمّل الحاضر الكثير من النكبات السياسية والنكسات الاقتصادية والمخاوف الاجتماعية.

والخيارات المتاحة في هذه المرحلة محدودة، ولا تحتمل أي تجارب جديدة، وهي بعنوانها العريض تكاد تكون محصورة ببعد واحد هو كيفية استعادة ثقة جمهور عربي عريض، عانى من تجارب سياسية وتنموية أفقدته الكثير من صبره واحتماله، وهي – الخيارات - لا تتطلب بطبيعتها، وبحكم التجارب السابقة، إعادة اختراع العجلة من جديد، أو إعادة إنتاج الآليات التي كانت سببا في الانتكاسات السابقة.

المطلوب هو الابتعاد عن الطابع الانقلابي في عملية التغيير المنشود، والتحول إلى التغيير المؤسسي المستدام الذي لا يرتبط بالأشخاص بل بالمؤسسات والتشريعات، وهناك العديد من النماذج الناجحة في هذا المجال -ومنها بالمناسبة نماذج أفريقية سبقناها في الاستقلال وتجاوزناها بالإمكانيات- إذ استطاع بعضها رغم شح الموارد تحقيق نتائج باهرة على صعيد معدلات النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي والاجتماعي .

ومن حسن الحظ أن لدينا الآن فرصة لتفعيل العمل المؤسسي، عبر تقنيات الإدارة الحديثة التي تفتح الباب واسعا لتخليص الأجهزة الإدارية والمالية من الترهل الذي أعاق عملية التغيير وشرع أبوابا واسعة لفساد لا زلنا نكتوي بناره أو نحصد آثاره.

وحولنا تجارب عديدة استطاعت من خلال العمل المؤسسي المثابر أن تبني اقتصادات قوية ومجتمعات متماسكة، من خلال فصل الخطاب الأيديولوجي عن العمل التنموي؛ لتنجح بعدها في تقديم نماذج سياسية مستقرة قادرة على التكيف مع المتغيرات التي مكنتها من التقدم باستمرار نحو الصفوف الأولى.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com