شايلوك وصفقة القرن
شايلوك وصفقة القرنشايلوك وصفقة القرن

شايلوك وصفقة القرن

في مسرحية تاجر البندقية للكاتب الإنجليزي وليام شكسبير، يشترط المرابي اليهودي شايلوك على منافسه وغريمه أنطونيو اقتطاع رطل من لحمه، إذا تخلف عن سداد دينه لشايلوك، وقبِل أنطونيو الشرط القاسي تحت ضغط الحاجة، أو بوهم أنه شرط قاس وغير جدي، من قبيل المبالغة في الضمانات، لاستيفاء مبلغ الدين في موعده، كاملا غير منقوص.

لم يكن يخطر في بال أنطونيو وهو يوقع على هذه الضمانات القاسية، أنه سيجد نفسه ضحية جشع غير مسبوق، وأن المرابي اليهودي، يعني كل كلمة في العقد، وأنه سينفذ شروطه بحذافيرها، ونصوصها كما وردت في وثيقة الاستدانة.

بل إن شايلوك رفض بإصرار، وهو يلجأ إلى القضاء عندما تعثر أنطونيو وعجز عن تسديد الدين في موعده، كل محاولات الاسترضاء والتسوية التي قدمت له، ولم يأبه بتعاطف الناس مع انطونيو، ولا باستنكارهم لما يبديه من جشع، ورفض بلؤم غريب كل الإغراءات، والعروض التي قدمت له، لثنيه عن تنفيذ شروطه القاسية بما في ذلك الحصول على ضعف مبلغ الدين كغرامة على تأخر ميعاد سداد القرض.

لم يكن لدى القاضي من سبيل أمام إصرار شايلوك على تنفيذ شرطه التعجيزي، ورفضه لاسترداد ضعف المبلغ الذي أقرضه لأنطونيو، إلا الرضوخ لنصوص الاتفاقية التي تسمح لشايلوك باقتطاع رطل من اللحم من غريمه البائس. كان الجمع الذي يحضر المحاكمة يدرك أن تنفيذ الشرط يعني موتًا بطيئًا لأنطونيو، بشكل بشع، وبأسلوب غير مألوف .

حبس الناس أنفاسهم، والقاضي يصدر حكمه، بتمكين شايلوك من استئصال رطل اللحم، ووقفوا مستنكرين هذا الحكم الجائر، وهم يراقبون شايلوك يقترب بمديته المسنونة، وأسنانه التي تصطك بروح الانتقام لصدر أنطونيو. لكنه قبل أن يغرس السكين في جسد أنطونيو استوقفه القاضي محذرًا إياه من إراقة نقطة دم واحدة، فالعقد يسمح له باقتطاع اللحم لكنه لا يجيز له إراقة الدم.

أُسقط في يد شايلوك، وارتجفت يده، وسقطت السكين، من هول ما سمع، وحاول استدراك خسارته غير المنتظرة، وانتقامه غير الناجز بقبول العرض الذي قدم له في بداية المحاكمة وهو سداد ضعف القرض، ليفاجأ أن هذه العرض لم يعد قائمًا، وأنه فات أوان قبوله أو رفضه، فتراجع من جديد عارضًا أن يسترجع أصل الدين، ليجد مرة أخرى أن ذلك غير ممكن، وأن رطل اللحم البشري هو ما يمكن أن يأخذه استيفاء لحقه. بل إنه وجد نفسه متورطًا في جريمة التخطيط لقتل مواطن عندما أبدى استعدادًا للتنازل عن أصل الدين المستحق له، وهي جريمة يعاقب عليها القانون بمصادرة أملاكه، وأمواله، ليكون ذلك، في الأخير هو الجزاء الذي ناله لقاء جشعه ولؤمه.

"تاجر البندقية" مسرحية مدهشة في كل مرة يتم استعادتها، فهي تعكس قدرة الإنسان في التعامل مع التحديات القاسية، بأساليب مبتكرة تمكن البشر، لا من مواجهة ضعفهم فقط، بل الانتصار على عدوهم والنيل منه.

في صفقة القرن التي عرضها ترامب لحل الصراع العربي الإسرائيلي شيء من هذا فالعرض قدم للفلسطينيين وهم في أضعف أحوالهم، وأوهن حالاتهم. ظاهرالعرض وعنوانه مضلل وهو الوصول إلى سلام طالما حلمت به شعوب المنطقة، لكنه في العمق يمثل سكينا تنتزع به حقوق شعوب وتقتل به أحلام أفراد ظلوا عقودًا يحلمون بالسلام ويناضلون من أجله.

وحتى الآن كانت ردود الفعل، وأساليب المواجهة المقترحة، أشكالًا تقليدية مستنسخة من تجارب ونصوص فشلت مرة بعد أخرى في ردع الظلم والجشع، وظلت سببًا في مزيد من الإحباط والعجز.

ما نريده في مواجهة صفقة القرن حلول وردود مبتكرة، من نوع الحلول التي رفعت السكين عن جسد أنطونيو، وحمته من انتقام ظالم. والأمر ليس بعسيرٍ كما قد يظن البعض، وليس من قبل الخيال الأدبي كما قد يرى البعض الآخر، فأطفال الحجارة في فلسطين استطاعوا بأدوات بسيطة تغيير معادلة الصراع مع إسرائيل لدرجة أجبرتها على أن تعترف بعد الانتفاضة الأولى أن للفلسطينيين حقوقًا طالما أنكرتها، وأنه لا مناص من الرضوخ والإقرار بتلك الحقوق.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com