زيارة البابا وفك الارتباط بالسياسة
زيارة البابا وفك الارتباط بالسياسةزيارة البابا وفك الارتباط بالسياسة

زيارة البابا وفك الارتباط بالسياسة

تتوّج زيارة البابا فرانسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية لدولة الإمارات، مسيرة طويلة من علاقات التسامح التي نسجتها دولة الإمارات العربية المتحدة، مع مختلف الديانات، والطوائف.

تاريخيًّا لم تكن تلك العلاقات مفتعلة، أونوعا من التظاهر ، بل كانت تعبيرًا عن سلوك فطري أصيل،  وتجسيدا لحكمة معروفة عن القيادة التاريخية لدولة الإمارات المتمثلة بالمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان  ، والتي نجحت منذ توليها المسؤولية في ابوظبي أولا ، وفي دولة الأمارات تاليا ،   في إرساء قيم  التسامح بأنقى صوره، والحرص على  قبول الآخر، بأفضل تجلياته ،  قبل أن تتطوَّر هذه الممارسة ،  لتصبح  سياسة  إماراتية ثابتة، وبرامج عملية واعية، تدرك الواقع الإنساني المتغير، وتستجيب لحالة التنوع الذي احتضنته الدولة منذ قيامها، والذي تعزز باستقرار اجتماعي، وأمن وأمان لكلّ من يعيش على أرض الدولة، ويتفيأ ظلال ما يتوافر فيها، من عيشٍ كريمٍ، وفرصٍ واعدةٍ.

ولذلك لم تكن دولة  الإمارات ، تحتاج بهذا السجل الحافل ،  إلى زيارة كزيارة البابا لإثبات هويتها المتسامحة، أو لإظهار طبيعة الانفتاح الذي تعيشه على مختلف الصعد، واتجاه مختلف الملل، والديانات والمذاهب . فالكنائس والمعابد بمختلف مذاهبها، وتلاوينها، والتي َتوالى افتتاحها منذ الستينيات وحتى الآن، كانت شاهدًا ودليلًا حيًّا.  وهي بعددها الكبير المنتشر في مختلف مناطق الدولة، والتي يؤمها أتباع الديانات والمذاهب المختلفة، ممن يقيمون في الدولة، أو الزائرين لها، تؤكد أنها نتاج سياسة ثابتة، لم تتأثر -وجودًا أو تطورًا-  بالأزمات التي واجهها العالم الإسلامي، ولا بموجة التعصب،  التي طغت في مرحلة من المراحل على الخطاب الديني، وجعلت منه قيدا على  العمل السياسي في كثير من الدول العربية والإسلامية

أهمية زيارة البابا لا تقتصر على الإمارات وحدها، فهي في هذا المقام خندق متقدّم للعالم العربي والإسلامي، وأنموذج للإسلام السمح، الذي يقبل الآخر، وينفتح للحوار معه. وما يجري على أرض الإمارات خلال الزيارة، أو ما تتم مناقشته خلال مؤتمر الأخوة الإنسانية الذي يصاحبها، هو رسالةٌ قويةٌ للعالم لا من الإمارات فحسب بل من الدول الإسلامية ككل.

الإمارات لم تُرد من استضافتها للبابا ، أو المؤتمر المصاحب للزيارة، تحقيق اختراق لدبلوماسيتها، وتأكيد قدرتها على احتضان مثل هذا الحدث الدولي البارز، بل توفير مناخ مُواتٍ يعطي للحوار العاقل بين الأديان فرصة لتقليص فجوة الاختلاف، وإيجاد أرضية مشتركة تترسخ فوقها، وتزهر فيها قيم الحوار والتسامح.

 والحضور الإسلامي المكثف الذي تجسده مشاركة  شيخ الأزهر، وعدد كبير من أبرز  القيادات الدينية الإسلامية من مختلف الدول العربية، ومشاركة القيادات الروحية للديانات السماوية الثلاث، وقيادات لديانات ومذاهب عديدة  أخرى، دون أيّ تحفظات أو قيود، يؤكد أن سقف الحوار الديني في أبو ظبي سيكون مرتفعًا، وأنه يؤسس لمرحلة جديدة في حوار الأديان، ينقله من حالة جس النبض، والمجاملة التي اتسمت بها جولات الحوار السابقة، إلى مرحلة تتوافق  فيها القيادات الدينية على مشتركات تضبط  إيقاع العلاقة بين الأديان وتمنعها من الانزلاق إلى عنف ومواجهات  باسم الدين، أو صراعاتٍ تحت عناوينه المختلفة.

الانفتاح على الديانات الأخرى والحوار معها، واحترام كلّ منها للآخر، والقبول بالخصوصية الفكرية، يرفع الدين من التداول السياسي، ويمنع الاستقواء به، أو تفسيره بما يخدم المآرب، والأهداف السياسية . فغياب الحوار، والنقاش بين الأديان، أتاح لقوى سياسية وحزبية، التمترس خلف تفسيرات واجتهادات، وموروثات دينية خاطئة، غلفت أهدافهم السياسية وألبستها  اللبوس الديني المتعصب؛ ما جعل الأبواب مشرعة للحروب والنزاعات، والعديد من الصراعات والمشاحنات.

وبسبب ذلك، وعلى وقع ما كان يحدث في عالمنا الإسلامي، انصرفت الدول الإسلامية للدفاع عن ذاتها، إزاء الممارسات التي ارتكبها نفرٌ من المسلمين، وسعت بما يشبه البراءة من الموروث الديني للتنكر من أفعال شوهت  الدين الإسلامي والحضارة العربية، ووضعت المسلمين، في خانة المنبوذين حينًا، والأعداء المحارَبين أحيانًا، أو ضيَّقت على الكثير منهم عيشهم وحركتهم ورزقهم.

اليوم نأخذ -بزيارة البابا ومؤتمر الحوار الإنساني الذي يصاحبه-، زمام المبادرة لتقديم صورة مختلفة، وتوجيه رسالة مغايرة. صورةَ مَن يرغب في الحوار، ورسالةَ مَن يسعى للتفاهم، ومَن ينشد الوصول إلى المشتركات، ومحاصرة كلّ ما يبعث على الخلاف ويثير الضغائن.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com