نسخة داعش الجديدة
نسخة داعش الجديدةنسخة داعش الجديدة

نسخة داعش الجديدة

إذا صحت التقارير التي تتحدث عن هجمات لفلول داعش على مناطق في العراق، ووجود خلايا نائمة أو نشطة له في بعض المناطق التي سيطر عليها سابقًا، أو فرّت إليها عناصره الآن؛ فإننا نخشى أن نكون أمام مرحلة جديدة من المواجهة مع الإرهاب، الذي ظل يستشري في المنطقة لعقود، كمتوالية لا تنتهي، أو سرطانٍ خبيثٍ يتمدد في كثير من المناطق العربية والإسلامية.

ففي غيبة معلومات دقيقة وتقارير مؤكدة عن مصير الآلاف من فلول العناصر التي سيطرت على مناطق واسعة في سوريا والعراق، وأقامت فيها ما سمَّته الدولة الإسلامية لعامين كاملين، فإن هذا الغموض يثير في النفس المخاوف ذاتها التي تلت الحرب على القاعدة في أفغانستان، والتي كانت مخاوف محقة بعد أن تبين أن قيادات أساسية ممن عُرفوا بالعرب الأفغان وجدوا طريقهم إلى العالم العربي، وحملوا معهم إلى جانب مشروعهم "االظلامي"، طموحاتٍ أوسع، وأجندةً أشمل، من تلك التي كانت لديهم في أفغانستان، حيث طرحوا فكرة إحياء الخلافة الإسلامية، وتحويلها من حلم أيديولوجي، إلى واقع جغرافي تجسّد في "إقامة الدولة الإسلامية"، التي شكلت في لحظة وجودًا جغرافيًا وديموغرافيًا، مثَّل خطرًا فعليًا لا على الإقليم فقط، بل على مناطق عديدة حول العالم.

ويبدو أن نشوة الانتصار على داعش، في الموصل والرقة ودير الزور وغيرها، من المناطق التي تمدد التنظيم فيها، بَعثتْ حالة من الاسترخاء السياسي في التعاطي مع الآثار الاجتماعية والسياسية التي تركها التنظيم بعد اندحاره. بل إن المناخ الذي ساعد على ظهور التنظيم من الأساس لم يبق على حاله وحسب، بل تفاقمت المعاناة الاقتصادية، والتهميش الاجتماعي، ومشاعر الانتقام الطائفي والسياسي لتصبح عوامل فاعلة في تجييش أجيال جديدة من الجماعات المسلحة، وبعث الروح في الخلايا المتفرقة المنفلتة التي تبحث عن الفرصة والتوقيت المناسبين لتنشط من جديد.

ومع الاعتراف بأن المواجهات المسلحة مع التنظيمات والفصائل الإرهابية استنزفت الكثير من الطاقات والموارد، إلا أن ذلك لايمنع من القول إن "هذه المواجهات لم تكن كافية لعلاج المشكلة واجتثاث الظاهرة". فالمسلحون الذين كانوا يقاتلون في سوريا والعراق نجحوا في الهرب والتسلل إلى مناطق أخرى تتوافر فيها كل المقومات، التي تساعد على بناء وتأسيس حواضن اجتماعية وفكرية جديدة، كتلك التي نمت فيها داعش وأخواتها من الحركات المسلحة. مع اختلاف واضح هذه المرة، وهو أنهم يتحولون للعمل السري إما على شكل خلايا نائمة، وإما على شكل مجموعات تنتشر عند اللزوم في مناطق التوتر، متسترة بفصائل وتنظيمات مسلحة أو قوى سياسية وحزبية توفر لها الغطاء والإمداد.

ولعلنا لا نأتي بجديد حين نقول، إن هناك العديد من خلايا داعش تقاتل حاليًا في سيناء، وتنتشر في  ليبيا، فضلًا عن مناطق كثيرة في أفريقيا وآسيا. وهذه المناطق تشكل من الناحية اللوجستية حاضناتٍ مثاليةً للتنظيم الإرهابي . فبالإضافة إلى اتساع رقعتها الجغرافية، وتعدّد المجموعات المسلّحة المنتشرة فيها وتنوعها، فإنها تمثل مراكز تفريخ لمجموعات قد تكون أكثرَ تطرفًا، وأعمقَ تجربة من النماذج  السابقة .

في ضوء ذلك كله، فإن انحسار الخطر العسكري لداعش في سوريا والعراق، لا يعني أن الخطر الإرهابي في المنطقة يتراجع، وأن ما يقع من ضربات إرهابية هنا وهناك، هو عمليات متفرقة، لذئاب منفردة كما يحلو للبعض أن يسميها. فخطر الإرهاب لا يكمن في العمليات العسكرية المباشرة، بل في وجود بيئة تساعد على إعادة بناء مجموعات مسلحة تعمل، إما كامتداد لداعش وإما نسخة معدّلة من التنظيم، أو ربما بشكل جديد لم يكن مألوفًا ولا متوقعًا، كما حدث عندما تحوّل تنظيم القاعدة -الذي كنا نظنه أخطر نموذج للإرهاب- إلى شكلٍ جديدٍ من جهة الفكر والممارسة، بأنْ بات أشبه بـ"لعب العيال" قياسًا لتنظيم داعش الذي  تلاه، والذي أطلق العنان لأشكال جديدة من الإرهاب والقتل لم يسبق لها مثيل.

المواجهات العسكرية الجديدة مع التنظيمات الإرهابية، تؤكد أن المواجهة العسكرية والأمنية لا يمكن أن تكون كافية، مهما عظمت، وأنه دون توافر إرادة سياسية إقليمية ودولية تعمل على تنقية المناخ السياسي والاقتصادي والفكري من كل الشوائب التي ساعدت على نشوء ظاهرة الإرهاب، تظل التربة خصبة لنمو أشكال جديدة من الإرهاب تستنزف كل الموارد والطاقات، وتهدّد الجميع مهما بعدت المسافات، واختلفت الساحات.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com