"اللونغ" الصيني

"اللونغ" الصيني

لربما من السذاجة أن تُقرأ حادثة اقتياد الرئيس الصيني السابق "هو جينتاو" خارج قاعة الشعب في الجلسة الختامية لمؤتمر الحزب الشيوعي الصيني العشرين قبل أيام، على أنها بنت ساعتها، أي مصادفة بزغت عفو الخاطر..

أنا أراها حركة إذلال محبوكة بإصرار ومحمّلة برسائل بالغة الحساسية للداخل والخارج..

ففي مؤتمر تُرتب فيه أواني الشاي الخزفية البيضاء بالخيط المشدود والمسطرة، على يمين حضور نافوا عن 2300 عضو؛ لتبدو كلها باستقامة واحدة، يسهل استيعاب حركة الاقتياد كحريق يراد لرماده أن ينثر في الأرجاء وعلى الملأ العالمي والمحلي.

مَن تنبه إلى مفردات لغة جسد الرئيس الحالي شي جينبينغ، رغم ما يعرف عنه بأنه رجل غير ظهرة، أي يقدر على كتمان مشاعره ولجمها.. مَن دقق في حركة يده ورأسه، يدرك أي إذلال ألحقه بسلفه الذي حاول التودد إليه برؤوس أصابعه الراعشة لكن دون جدوى أو إشفاق.

لسنا اليوم أمام زعيم ينتزع فترة رئاسية ثالثة، بل في مشهد ولادة "لونغ" جديد يفرض هيبته، بما يشبه صورة حلمه التائق إلى الصدارة العالمية، بعد أن نجح بنقل بلاده إلى البحبوحة والمنعة.

فمن يستقرئ تاريخ الثورات المتحولة إلى دول أو سلطات بصيغة دولة، يرى أن الثورة المحظوظة ينبغي أن يتيسر لها رجل يفجّر بركانها، ويجنح بها إلى النصر على أعدائها.

والأهم بعد هذا أن يولد لها قائد استثنائي ينقذها من البقاء في مستنقع عبادة ذلك القائد الثوري، ويخلصها من حاشية تربت على التصفيق والتلفيق، ثم من بعد هذين القائدين تحتاج زعيما ثالثا يضعها في أجواء العالم المتقدم ويخرجها من عزلتها ويمهد لها أسباب الأمان والازدهار.

ما من شعب محظوظ كالشعب الصيني؛ ففي المائة عام الماضية توافر له القادة الثلاثة المطلوبون. الرئيس المؤسس وقائد الثورة، أو الربان الكبير ماو تسي تونغ فقد تولى أمر الولادة وانتصر. ومن بعده انبرى الرئيس دينغ هسياو بينغ ليوقف العبادة الماوتسنغية، ويضع صاحبها موضع من يصيب ويخطئ دون أن يضربه بالسيف، كما فعل خروشوف بستالين في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي مطلع خمسينيات القرن الماضي، لم يضربه لكنه منعه من الهيمنة على الحكم وهو رفات في قبره، وعبر إرثه وكتابه الأحمر.

فوح مسك الحظ للصين جاء مع الرئيس شي جينبينغ الذي عزّز موقع بلاده، وقدم نفسه تنينًا متجددا بعد أن ألغى اقتصار الفترة الرئاسية على دورتين. ولهذا نرى الولاية الثالثة ولادة جديدة لزعيم طوى إلى غير رجعة مفهوم القيادة الجماعية التي خطها دينغ؛ كي لا تسقط البلاد في قبضة رجل واحد، ودون أن يعرف أحد كم يستمر هذا الوضع.

يعترض بعض المفكرين الصينيين أن تنينهم لا يمكن أن يترجم في اللغة الإنجليزية بـdragon، فهذا الرمز الأسطوري لا تستوعبه هذه الكلمة التي تُعني المبحلق بعينيه، ويقترحون أن يبقى التنين حاملاً لذات الاسم الذي يطلقونه عليه (لونْغ).

ففي الثقافة الغربية ذات الجذور اللاتينية نرى التنين حاوياً للشرور غير حافظ للحياة الرغيدة والمحبة الأبدية. أما ما يراه الصينيون عبر تاريخهم أنه طوطم يرمز إلى علو المقام وهو ميزان الوفرة والبطولة، وكان أباطرتهم يشعرون بالسعادة حينما ينعتون به.

الحظ الأكبر للصين في هذا الوقت العالمي العصيب أن الطريق معبدة نحو الزعامة العالمية، فالقوة الاقتصادية الأولى تتلعثم بتلعثم إدارتها المرتبكة الهزيلة، والقيصر الروسي منزلقا في الوحل الأوكراني دون الأمل بخروجه معافى، فيما القارة العجوز تستغيث لتأمين دفء من شتاء يطرق كوخها المتهالك.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com