دُهمج السلام الصيني

دُهمج السلام الصيني

لا أرى الرئيس الصيني شي جين بينغ رجلَ إطفاء متمرّسًا باستطاعته إخماد ألسنة لهب حرب روسيا على أوكرانيا. لا لأنه لا يحمل جديدًا يذكر في زيارته الحالية إلى موسكو يفضي إلى تلك النتيجة المرجوة، بل ما يقدّمه سبق وقدمته عاصمة بلاده في وثيقة التسوية المعلنة بعد دخول الحرب سنتها الثانية بيوم واحد متضمنة 12 بندًا شكّك الغرب في قدرتها على إنهاء الصراع، وتحفظت موسكو على عنوانها العريض، مشترطة في أي حلّ سلمي احتفاظها بالمناطق الأوكرانية التي ضمتها إلى حظيرتها.

من قبلُ ومن بعدُ يخلو عالمنا المتخم بالويلات والحروب من الحكماء الحقيقيين القادرين على إطفاء الحرائق. العالم يزخر بزعماء يتصارعون ساحقين الرعايا سحق العشب وقت اقتتال الفيلة فوقه. هذا ما يقوله الحاضر بكل مفرداته، وقاله التاريخ بلسان حياده إن كان ثمة حياد يذكر فيه، أو ثمة تاريخ يعتد بمصداقيته في المجمل.

مهمة شي جين بينغ المستلة أو المستشفة من بين سطور الواقع وإرهاصاته تشي بأن الصين تريد لهذه الحرب منتصرًا وحيدًا هو الزعيم الصيني نفسه.

في أدبياتنا الحياتية نقول إن الحكيم من يجبّر المكسورة قبل كسرها، إذ يعمل بدأب على عدم سقوطها أو اندلاع نيران في أذيال أثوابها موفرًا على الجميع احتراقًا لا يبقي ولا يذر. عالمنا لربما ينطوي أحيانًا على سياسيين برتبة أنصاف حكماء يكونون قادرين في مرحلة ما من مراحل النزاعات أن يضطلعوا بمهمة الطرف الثالث المحياد ذي النية الصافية في إنهاء النزاع، حتى ولو كلفهم الأمر أن يقدموا حلولًا على حسابهم الخاص. وهذا بالطبع ما لا يستطيع الرئيس الصيني فعله أو تقديمه في الوقت الحاضر.  

يسرد لنا تراث البادية قصة عن رجل قسّم ميراثه بين أولاده الثلاثة قبل مماته. كان الميراث 17 جملاً وزّعها بينهم تبعًا للجهد والوقت الذي بذله كل منهم في رعايته، على أن يأخذ الأول نصفها والثاني ثُلثها والثالث تُسعها. وبعد وفاته اختلف الأبناء، فمن المستحيل تقسيم التركة حسب تلك الوصية العجيبة دون إراقة دماء.

أشار أحدهم أن يستشيروا طرفًا ثالثًا، فذهبوا إلى حكيم يشتهر برجاحة العقل والكرم، وبعد تفكير لم يجد حلاً سوى أن يهديهم جملاً يضيفه إلى تركتهم لتستوي وصية القسمة. وهكذا وبعدما أن صار العدد 18 جملًا أعطى نصفها للأول 9، وثلثها للثاني 6، وجملين للأخير.

تعجُّ الصين بالدهامج، وهي الإبل الشهيرة الضخمة ذات السنامين. ويمكن لها أن تتدخل في قصة الميراث وتحلها بسهولة، ولكن حرب روسيا ليست نزاعًا من هذه القماشة ليحل بجمل أو دهمج، بل شيء آخر معقد مركب متداخل متفاقم، يحتاج أولا وأخيرا أن يكون الطرف الثالث ذا نية حقيقية لحل النزاع. وهذا ما لا تريد الصين أن تكونه مع أنها عمليًّا، وحين تقدم دهمجها تستطيع أن تسترده بعد أن يأخذ الأطراف تركتهم على النحو المذكور أعلاه. وتلك محنة أو محنة السياسة والأرقام.

أتفق مع ما ذهبت إليه صحيفة "التايمز" البريطانية في تحليلها الإخباري قبل يومين أن رحلة الزعيم شي جين بينغ لا تهدف إلى تحقيق السلام بين المتنازعين. بل إن مهمته المستلة أو المستشفة من بين سطور الواقع وإرهاصاته تشي بأن الصين تريد لهذه الحرب منتصرًا وحيدًا هو الزعيم الصيني نفسه، بالطبع مع الرغبة في إبقاء الرئيس الروسي على رأس سلطته مع إلقاء الغرب في مستنقعهم العميق.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com