عصمة الأنبياء (2)

عصمة الأنبياء (2)

تقدم ذكر بعض حجج مَن خالف فقال بعدم عصمة الأنبياء من المعاصي، والحق أن الإنسان خُلق ضعيفا، ولم يؤت من العلم إلا قليلا، وقد وصفه الله، هلوعا، ظلوما، جهولا، عجولا، يطغى متى استغنى، والرسل لا تنفك بالكلية عن عوارض البشرية، فقد تقع الهفوة منهم، وقد يخطئون اجتهادا، وجواز المعاصي عليهم عقلا وشرعا لا يستلزم إطلاق القول بوقوع الرذائل منهم، ولا يعني أنهم كغيرهم في ذلك، لأن الله اصطفاهم ورفعهم بالعلم والخشية والتقوى، وجعلهم أسوة حسنة لأقوامهم..

وما احتملته النصوص من نسبة الذنوب إليهم، إنما يُراد به الهفوات والخطأ الاجتهادي فتستعظم بحق المقربين، ولا يتركها الله لهم بل يستدركها عليهم، إما بمؤاخذة وإما بعتاب، تسارع الرسل بالاستغفار والتوبة منها، وهي هفوات وليست من الرذائل والفواحش التي حذر الرسل منها، ووقوع تلك الهفوات يدرك به حكم كثيرة تتعلق بتحقيق العبودية لله..

منها إدراك الفرق بين الرب والعبد مهما عظمت منزلة العبد، ومنها إدراك أن الكمال المطلق لله وليس لخلقه، ومنها اجتناب الغلو في الأنبياء، ومنها إدراك أن الله ابتلى آدم وذريته حتى الرسل، ومنها أن الله هو العاصم من الذنوب، ومنها أن ما بالخلق من نعمة فمن الله، ومنها أن احتمال ورود الذنوب على الرسل يستوجب حرص غيرهم على اجتنابها خشية سخط الله، والطمع في رحمة الله وحسن الظن به لأن ما وقع من هفوات الرسل قد تاب الله عليهم لما تابوا وغفرت لهم لما استغفروا، ومنها لزوم تعظيم قدر الخالق والحذر من احتقار المعاصي والمسارعة بالتوبة منها، وهذه الحكم وغيرها تفيد بأن هفوات الرسل وإن بدت نقصا بحقهم إلا أنها أورثت كمالا بحق غيرهم.

الرسل منزهون عن تعمد الذنوب فضلا عن رذائل المعاصي، وما يقع من الأنبياء لا يعدو كونه هفوة أو اجتهادا خاطئا تستعظم مع مقام الرسالة يعاتبون عليه ويغفر لهم.

ومن ذلك اجتهاد الرسول بالانشغال بدعوة زعماء قريش رجاء هدايتهم، وتلهيه عن الأعمى حين سأله أن يعلمّه مما علّمه الله، فعاتبه الله بقوله: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى). وإنما حرص النبي على دعوة الزعماء، رجاء إيمانهم وإيمان غيرهم بإيمانهم، ودفعا لشرهم عن الإسلام والمسلمين، ونحو هذا عتاب الله للرسول في قصة زيد وزينب حيث قال: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)، وهكذا عتابه على إذنه عليه السلام لمن استأذنه في التخلّف يوم الخروج إلى تبوك، فعاتبه الله بقوله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم...)..

فقد كان الأولى ألا يأذن لهم ليعلم الكاذب المنافق، من المؤمن الصادق، وهكذا عتابه على أخذ الفداء من أسرى بدر اجتهادا، بعد مشاورة أصحابه واختلافهم في ذلك فوافق رأيه رأي أبي بكر بأخذ الفداء فعاتبه الله عتابا شديدا، بقوله: (ما كان لنبيٍ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق، لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) قال البيضاوي والآية دليل على أن الأنبياء يجتهدون وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يقرون عليه.

أما الاحتجاج بقوله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى)، فلا يستقيم لكونه وقع قبل نبوة آدم بدلالة قوله عقب ذلك: (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى)، وإنما اجتبي بعد عصيانه، وهذا يؤكده قوله: (فإما يأْتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، وهكذا الاحتجاج بقتل موسى للقبطي لا يستقيم لأنه كان خطأ وليس عمدا، ولأنه كان قبل نبوة موسى بدلالة قوله: (قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين)، وقوله: (قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون).

أخبار ذات صلة
عصمة الأنبياء (1)

فهذه وأمثالها هو الذي وقع من الرسل، وإنما قيل إنها ذنوب باعتبار عظم مقام الرسل وهم مع ذلك استغفروا وتابوا منها، وهي مغفورة لهم بفضل الله، والرسل بشر لا يملكون لأنفسهم من الأمر شيء قال تعالى: (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا)، وتخوف العقاب أجدر بمن يرتكب المعاصي عمدا كمعصية إبليس، ولا يقع هذا من الأنبياء كما في معصية آدم، وما تضمنته الأحاديث من دعاء الأنبياء بمغفرة الذنوب كان من قبيل التضرّع والتذلل والخشية وإظهار الأدب في الدعاء وعظم قدر الله وخشيتهم وإجلالهم له والافتقار لَه والانكسار بين يديه وهو من كمال العبودية، وأنه لولا حفظ الله لهم لأمكن أن يُبتلوا بالذنوب كما يُبتلى بها غيرهم.

 فالحق أن الرسل منزهون عن تعمد الذنوب فضلا عن رذائل المعاصي، وما يقع من الأنبياء لا يعدو كونه هفوة أو اجتهادا خاطئا يستعظم مع مقام الرسالة، يعاتبون عليه ويغفر لهم.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com