فائض عن الحاجة
فائض عن الحاجةفائض عن الحاجة

فائض عن الحاجة

يوسف ضمرة

منذ شهور أتابع سينما الأسود والأبيض المصرية؛ أشاهد نجوما مثل أنور وجدي وحسين رياض وأحمد مظهر. لا أستثني أحدا!

وجدت أن السينما المصرية منذ الفيلم الأول حتى يومنا هذا، حافظت على بعض المفاهيم من دون مراجعة أو تطور. فالبطل الثاني لا يزال في السينما المصرية، كما كان أيام الأبيض والأسود؛ شخصية تثير الضحك ـ غالبا ـ ويمكن الاستغناء عنها ـ غالبا أيضا ـ . إنها لا تشبه سانشو بانزا في البنية الروائية، والضرورة الفنية. فمن دون سانشو لم يكن ممكنا ظهور دون كيخوته أبدا. أما الأخطر فهو مفهوم الشخصية الثانية؛ فواحد مثل عبد السلام النابلسي مثلا، لم يكن لوجوده أي دور أو معنى، سوى إراحة الممثل الرئيس أو الأول في مشاهد عدة، وإضافة فواصل كوميدية بين حين وآخر في الفيلم، لا علاقة لها بالحكاية الأساسية الرومانسية والمبكية والتي ينتظر المشاهد حل مشكلتها حتى النهاية، ليخرج مرتاحا سعيدا من تورطه في حكاية افتراضية تسمى قصة حب!

هذا المفهوم للشخصية الثانية في الأبيض والأسود، لم يتوقف حتى اليوم، وإن حاولت بعض النماذج القليلة تجاوزه بين حين وآخر. وعلة وجود هذه الشخصية ـ على الأرجح ـ أن السينما المصرية بدأت بعد المسرح في مصر. والمسرح في مصر تعني قضاء ليلة أمام الحكاية والغناء والاستعراض، حيث لم تكن مسرحية تقل عن 4 ساعات، وهو ما استمر حتى يومنا أيضا، ولكن بالألوان. وفي مسرحيات كهذه، لا يستطيع البطل الرئيس أو الأول، البقاء واقفا على الخشبة طوال هذه المدة، وبذل كل ما يبذله من جهود جسدية وذهنية ليليا، وعلى مدار شهور. فتم اللجوء إلى البطل الثاني. وهو ليس اختراعا مصريا بالطبع، ولكن توظيفه في السينما والمسرح المصريين، كان مختلفا عنه في الغرب، أدبيا وسينمائيا ومسرحيا ـ وربما انسحب هذا المفهوم أحيانا على الحياة السياسية، والنماذج متوفرة ـ . ولأن الحال في المسرح كانت هكذا، فقد استمرت السينما في تقديم البطل الثاني ليؤدي الأدوار ذاتها التي كان يؤديها وجوده في المسرح قبل سينما الأسود والأبيض؛ إراحة الممثل الرئيس، وإضافة فواصل كوميدية أو استعراضية أو غنائية أحيانا. وبذلك تكون فترة وجود هذا المثل على الخشبة، هي فترة لإراحة المشاهد أيضا، وخصوصا حين يجري تصعيد الإشكال في الحكاية، وما يرافق ذلك من توتر وانتظار. ومثل هذا الأمر لم ينته حتى اليوم، وإن اختلف الشكل قليلا بالألوان!

لكن ما لفت انتباهي أكثر من سواه، هي الموضوعات التي كانت تناقشها أفلام الأسود والأبيض. وقد لفتت انتباهي لأنها ـ كما أرى ـ لم تتغير كثيرا بعد مرور قرن على بداية الصناعة السينمائية في مصر. وعلى سبيل المثال، فإن شخصية"المومس الفاضلة" التي أكثرت من طرحها أفلام الأبيض والأسود، لا تزال موجودة إلى اليوم. وهي مجرد استنساخ متعدد الوجوه ـ وجوه الممثلين وبعض التفاصيل الثانوية فقط ـ لغادة الكاميليا التي تمكنت من صوغ الجزء الأكبر من ذائقة أجيال من متابعي السينما المصرية. ويكفي أن ترى اللص والكلاب لكي ترى هذه الشخصية النمطية.

أجل، فقد ظهر سينمائيون مختلفون بالطبع، ولكن ثقافة الأسود والأبيض لا تزال هي الطاغية، ولم يتمكن هؤلاء المختلفون من تحقيق نقلة نوعية في السينما. ليصبح السؤال مشروعا: لماذا؟

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com