بين "بوعزيزي-تونس" و"أميني-إيران"

بين "بوعزيزي-تونس" و"أميني-إيران"

ينطوي الرهان على "انتفاضة الحجاب" لتغيير النظام في إيران، على قدر كبير من المبالغة والتطيّر، والقول بأن مهسا أميني هي "بوعزيزي تونس"، تتكشف عن سوء فهم وتقدير لاختلاف التجربتين والسياقين، إن تخطى حدود الإسقاط الصحفي والإعلامي..

لكن إيران ما بعد الانتفاضة، لن تبقى كما كانت عليه قبلها، والسلطة التي ظنت أنها تتوفر على "تفويض إلهي" للحكم بما تشاء وكيفما تشاء، ستكتشف أن أساليب حكمها القديمة، ما عادت تصلح للمرحلة الجديدة.

الاحتجاجات الشبابية والطالبية التي عمّت المدن الإيرانية، ربما تكون غير مسبوقة.. هي ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، بيد أنها تميزت بشمولها الجغرافيا الإيرانية من جهة أولى، وانخراط الطلبة والشباب من مختلف الأعمار (الجامعات والثانويات) في فعالياتها رغم الكلف الباهظة من جهة ثانية، وانتقالها السريع من التعبير عن الغضب إزاء مقتل ناشطة من أصول كردية، إلى المطالبة بتغيير النظام وإسقاطه من جهة ثالثة، وهي حملت في بعض ساحاتها، شعارات قومية، ذات مضامين "انفصالية" من جهة رابعة، والأخطر، أنها في أسبوعها الخامس، تنذر بانضمام قطاعات إستراتيجية (العاملون في قطاع الطاقة) إلى صفوفها.

لا جديد حتى الآن، في كيفية تعامل السلطات الإيرانية مع حركة الاحتجاجات.. التكتيك القديم القائم على القبضة الحديدية، وشيطنة المتظاهرين وتعظيم دور "العامل الخارجي"، كان من قبل، ولا يزال حتى اليوم، هو السمة الحاكمة لكيفية تعامل هذه السلطات مع غضب الشارع واحتجاجاته، وتلكم أساليب وتكتيكات، خبرها العالم العربي في العشرية الفائتة، عندما أقدمت أنظمة وحكومات على التنصل من مسؤولياتها عن مكامن الغضب وأسباب الاحتجاج، وفضلت إلقاء اللائمة على "عدو خارجي" متربص، ودائم في سياق "نظرية المؤامرة" إيّاها.

لا شك أن لـ"الخارج" حضورا مباشرا في "الداخل" الإيراني، فالاحتجاجات وفرت وتوفر، فرصة نادرة، وغير مكلفة، لخصوم إيران لإضعافها واستنزافها، والسعي لنزع "الشرعية" عن نظامها، وهذا ما لا ينبغي أن يكون مفاجئا لطهران، فالثورات "الملونة"، لم تكن يوما فعلا شعبيا خالصا، حتى في البلدان التي توفرت لشعوبها كل أسباب الغضب والاحتجاج، فلقد تداخل أثر العاملين الداخلي والخارجي في إشعال فتائل الاحتجاج، وأحيانا في الوصول إلى التغيير الجذري.

لكن ما كان لـ"الخارج" أن يكون على هذا القدر من التأثير، لولا أنه وجد في "الداخل" ما يمكّنه من الاتكاء عليه، وتوظيفه وتفعيله..

وبدل إشاحة النظر للخارج البعيد، يتعين إمعان النظر في مواطئ الأقدام والتأمل في الواقع القريب.. هذا ما لم تفعله سلطات طهران من قبل، ولا يبدو أنها تفعله اليوم.

الرهان على الاحتجاجات الشعبية في إيران لتغيير النظام أو تغيير سلوكه، صائباً كان أم طائشا، بلغ أوسع مدى كوني ممكن، إذ لولاه لما تحركت على نحو واسع ومتعدد الأشكال، موجات التضامن مع المحتجين الإيرانيين، وفي عشرات المدن العالمية، ولما انهمرت الانتقادات من قبل حكومات ومنظمات على طهران..

ومن بين مختلف ردود الأفعال المُدينة والمُنددة بـ"وحشية" أجهزة إنفاذ القانون الإيرانية، كان لافتا، قول الناطق باسم الإدارة الأمريكية، بأن "نووي إيران" لم يعد أولوية ضاغطة لإدارته، وهي التي باتت تولي دعم الاحتجاجات وإسنادها، موقع الصدارة في جدول أعمالها المزدحم..

هنا، والآن، يتضح حجم التهديد الذي تستشعره طهران، من دون أن تقوى في المقابل، على التصرف على نحو يحتوي الاحتجاجات بدل تأجيجها.

ما عاد ممكنا ونحن نطوي بسرعة، سنوات وعقود من القرن الحادي والعشرين، اعتماد مسطرة واحدة، يقاس بها وحدها، سلوك البشر، ويتحدد من خلالها وحدها، ما الذي يتعين عليهم أكله وشربه ولبسه، وكيف سيفعلون ذلك..

الطبيعة تكره اللون الواحد، والمجتمعات تمقتها وترفض "نظرية المسطرة"... تلك حكمة توصلت إليها البشرية بعد سبعة عقود من حكم الشيوعية في الاتحاد السوفياتي ودول المعسكر، وبعد فيض من التجارب الشمولية التي عمّرت أو لم تعمر طويلاً.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com