لمن درس الفلسفة مثلي، لا تتجاوز في الغالب، معرفته للإمبراطورة كاترين الثانية، التي تربعت على عرش روسيا طيلة أربعة وثلاثين سنة، منذ سنة 1762 إلى 1796، علاقاتها بفلاسفة الأنوار، حيث أغدقت مالا وفيرا لمساعدة ديدرو ودالمبار على نشر أجزاء من الموسوعة الفلسفية، وتبادلت نقاشات حادة مع روسو حول العقد الاجتماعي، وإيمل أو التربية.
ومثل الفيلسوف الألماني غريم وسيطا بينها وبين الوسط السياسي والفني في أوروبا، وربطتها علاقة حب ملتهبة مع فولتير، رغم فارق السن بينهما، انتهت مثل نار من تبن؛ بسبب عشيقات فولتير العديدات وعشاق كاترين الثانية الكُثر..
غير أن إمبراطورة روسيا ظلت تتبادل معه الرسائل طوال حياته، فقد كان يتربع على عرش الفلسفة في أوروبا، كما هي تتربع على عرش روسيا، وكانت هي تحتاج إلى مجده الفكري لإضفاء شرعية أخلاقية على حكمها وتحتاج إلى نصائحه وآرائه، كما ظلت وفية لذكراه حيث اقتنت مكتبته الضخمة إثر وفاته، وهي المكتبة التي فُتحت لرئيس فرنسا الأسبق جاك شيراك عند زيارته لروسيا سنة 1997، في إشارة لعمق العلاقات الثقافية بين بلاده والروس.
معرفة المؤرخين لكاترين الثانية تتجاوز أكثر من عشرة آلاف رسالة تبادلتها، إلى آخر يوم في حياتها، مع فلاسفة الأنوار ومع الرسام الشهير فالكونيه، فهي، كما يصورها المؤرخ الفرنسي تييري سارمنت ومؤلف كتاب "كاترين روسيا الثانية، جنس القوة" أعظم فاتحة في تاريخ روسيا، إلى جانب ستالين، من حيث عدد المناطق ومساحات البلدان التي ضمتها إلى بلدها، خاصة في المناطق المتنازع عليها حاليا بين أوكرانيا وروسيا.
في فترة حكمها، استحوذت على ما يقارب 520 ألف كيلومتر مربع من أراضي البلدان المجاورة، ونجحت حيث فشل أسلافها بضم شبه جزيرة القرم بعد عدة حروب ضد الإمبراطورية العثمانية، وتحطيم الأسطول العثماني على السواحل التركية، ثم أوكرانيا بأكملها وأجزاء من بولونيا.
كل هذه المناطق كانت تابعة للصولجان الروسي وصنعت روسيا الجديدة التي كان يحلم بها القياصرة من قبل كاترين الثانية، روسيا المنفتحة على البحر الأسود وجنوب أوروبا وجزء من المتوسط إذ احتلت بيروت عقب هزيمة الإمبراطورية العثمانية.
يعلق المؤرخ تيري سارمنت على النجاحات العسكرية لكاترين الثانية بأنها كانت تعويضا عن جبنها في الإقدام على إصلاحات كبيرة في روسيا، خاصة الاجتماعية منها، وهذا ما كان يأمله فولتير منها، أن تطبق أفكاره وأفكار فلسفة الأنوار عامة حيثما فشل روسو في تطبيقها في جنيف وحيثما فشل فولتير في تطبيقها في برلين.
ولكن كان موقع كاترين على العرش هشا جدا، إذ جاء إثر انقلاب على زوجها الإمبراطور بيار الثالث، وهو انقلاب شاركت في تدبيره، إذ كانت تخشى عملية انقلاب أخرى يقودها هذه المرة الارستقراطيون ضدها وتنصيب ابنها بول الأول الذي كانت قد خططت لحرمانه من وراثة عرشها.
ونتيجة هذا الجبن في القيام بعمليات إصلاح اجتماعي، تُحرر آلاف الفلاحين الروس من نظام القنانة واجهت إمبراطورة روسيا تمرد الفلاحين لفترة سنتين متتاليتين بشراسة كبيرة.
بين صفة الطاغية التي حكمت بها بلادها وتعاملت بها مع دول الجوار لتوسيع إمبراطوريتها، ولتجعل منها في عصرها أكبر إمبراطورية في العالم، وصفة المستبدة المستنيرة التي طالما لهج بها الغرب، وهو يستحضر مراسلاتها مع أغلب مفكري عصرها ومعرفتها اللغوية والأدبية والفنية والفلسفية المتينة، يفضل المؤرخ الفرنسي القول "إنها كانت أكثر استبدادا من المستنيرة".
فصحيح أنها كانت أول "مثقف" يعتلي عرش روسيا، ولكن لا ننسى دور أصدقائها الفلاسفة وبالذات فولتير في الدعاية لها في أوروبا الغربية، وفي التوق لأن تجسد رؤاهم وأحلامهم في محاربة الجهل والتعصب. كان فولتير يُثني على دورها في إلحاق الهزيمة بالإمبراطورية العثمانية التي ترمز في رأيه للتعصب الديني.
لقد ذهب فولتير بعيدا في الثناء عليها، ومع أنها كانت تحتاج إليه أكثر مما كان يحتاج إليها، كما يعلق أحد دارسي تراسلهما، ألا أنه كان يبالغ في مدحها ومغازلتها، وإن حرص أحينًا على الإمضاء "صديقك الطاعن في السن"، وقد كتب مرة في إحدى تلك الرسائل "هل تعرفين أين تقع الجنة الأرضية؟ إنها أينما كانت كاترين الثانية".
وكما أن كاترين الثانية كانت تسعى لإرضاء فيلسوف أوروبا المعجب بها، فإنها قامت بمد ظلها أبعد مما فعل قيصرٌ آخر قبلها.
في صيف 2022، يقاتل جيش فلاديمير بوتين لغزو كل جنوب أوكرانيا والوصول إلى البحر الأسود. فهذه بالضبط كانت أراضي روسيا الجديدة التي ضمتها كاترين الثانية.
وفي مدينة أوديسا الأوكرانية، تحديدا، ينتصب تمثال مهيب على شاطئ البحر الأسود؛ هذا التمثال هو تكريم لكاترين الثانية التي أمرت بتشييد الميناء.
وفي سجلات بلدية المدينة قائمة بالنُصب والتماثيل وأسماء الشوارع التي تُذكر بالحضور الروسي بالمدينة غزوا واغتصابا للغة وللهوية.
نصب كاترين الثانية على رأس القائمة، فلم تعد الجنة جنة، وسيقول المؤرخون المشتغلون على التاريخ الراهن كلمتهم في هذا الشأن.