حربُ تفاحات الحب
حربُ تفاحات الحبحربُ تفاحات الحب

حربُ تفاحات الحب

أحب حروبي وأتلذذ بغنائمها ومعاركها الشهية، وأتذكر الآن حربنا الطفولية الساخنة في صقيع شباط، وبعد أن يهطل الجنرال الأبيض فارشا بهيمنته على الشوارع وأسطح البيوت؛ نهب محمّصين بالصخب نتراشق قنابلنا المرصوصة بارتعاش ومرح؛ أجمل القنابل تلك التي كنا نهمسُ فيها بعضاً من قبلات حرّى قُبيل تصويبها إلى جباه البنات..

حرب أخرى لم أخرج من خندقها مذ كنت في السادسة، وأخوضها حتى الساعة ببركاني الصامت بعد نفث روحي في حجارتها البيضاء والسوداء، وطالما تمنيت لو أن حرب الشطرنج النظيفة هذه تدحرُ حروبنا القذرة وتشتّت شملها الخبيث..

وفي السكن الجامعي تعودنا أن نشعل حرب الوسائد بحرية أكثر مما كنا نستشعره في بيوت أمهاتنا الجليلات، ذخائرنا لم تكن محشوة ريشَ دجاج مُرفَّه، مثلما تقدمها أفلام الأغاني القصيرة، كانت متخمة بأحلام نصف مبتورة، ربع مهشمة، ومهمشة بكامل أفراخها وأفراحها، نتقاتل بها حدّ الإنهاك؛ لننام باسمين كجنود قتلى على ضفاف الحكايات.

قبل أيام تمنيت لو أنغمس بكامل شغفي في حرب تفاحات الحب التي اندلعت في "بونول" الإسبانية، فهذه البلدة الوادعة، ومنذ عدة عقود تقيم مهرجان "La Tomatina" السنوي ليلتقي فيه المقاتلون المتحمسون من كل الأجناس ليشنوا نزالا طيباً لمدة ساعة يفنون فيه ذخيرة تقدّر بـ100 طن من هذه الفاكهة الطازجة الناضجة، ويخرجون وكأنهم عاشوا في عبوة "كاتشب".

طالما أحببت هذه الحرب الحمراء الطيبة، وقد سرتني عودتها الميمونة بعد هدنة قصرية استمرت سنتين بسبب الكورونا وظلالها؛ أحبها لأنها نظيفة حقا وبريئة، رغم دمويتها الزائفة التي يغسلها الماء وتشربها الأرض، أحبها لأنها احتجاج مبطن - كالشطرنج- على كل أشكال الحروب التي تنتاب كوكبنا في لحظات صفوه أو جنونه.

كثيرون في عالمنا يسمون البندورة تفاحة الحب؛ ربما لأنها وبعد سفرها من العالم الجديد في القارة الأمريكية المكتشفة قبل خمسة قرون كانت تمثل قيمة كبرى جميلة زاهية لدرجة أن تهدى إلى المحبوبات المتمنعات الجانحات إلى الخصام، هي تفاحة عامرة بالنداوة ودهشة المذاق الشاهق، ولا أعرف لِمَ جار عليها الزمن وأدرجها في الخضار.

المصريون يسمونها مجنونة، ليس لأنها تسر مجانين الحب الباحثين عن بعض الحمرة حتى في قشور البطيخ وظلال الدراق، بل لأن لا أحد يستطيع أن يُعقلن أسعارها حين ترتفع ارتفاعا مبالغا فيه، أو حتى حين تنحدر إلى بضعة قروش..

فمع نهاية شهرنا هذا سيبدأ بعض المزارعين في الغور الصافي في الأردن التلويح برمي إنتاجهم من البندورة عرض الشوارع وطولها احتجاجا على انخفاض سعرها، وهنا أراني أجدد اقتراحي بأن يقيموا مهرجانا يوازي حربا طريفة يجدون فيها الكثير من الطيبين المتعاطفين معهم ليشتروا تذاكر خوضها، فتعوض عليهم خسائرهم.

بعيدا عن كل البوح هذا، لا رجاء يلوح في أفق الإنسانية بأن يسقط حرف الراء من حربها، فالعالم مزنر بالحروب ومجلل بها، ولا رجاء أيضا في أن يرضخ عالمنا للعبة الشطرنج ومنطقها في نزاعاته، لتكون بديلا إستراتيجيا عن الصواريخ والدبابات وغازات السارين والخردل..

لن يقبل عالمنا الغبي أن تسوده حروب التفاحات الحمراء، ووسائد الريش خفيفة النغمات، هو يريدها دوما حربا بالموت الناضج لا أكثر ولا أقل.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com