ذات نهار في مانهاتن
ذات نهار في مانهاتنذات نهار في مانهاتن

ذات نهار في مانهاتن

كلما قال لي أحدهم إنه يحسدني على إقامتي في نيويورك، أتذكر ذلك المتشرد الحكيم الذي قابلته على إحدى دِكَك مانهاتن قبل تسعة أعوام.

كنت لا أزال يومها من السياح العابرين بالمدينة، ولم أنتقل بعد للإقامة بها، وكنت قد جلست على الدكة الخشبية فرحاً بما اقتنصته للتو من كتب وأفلام، محاولاً نسيان رغبتي الملحّة في معرفة تطورات سعر الدولار لأتمكن من تقدير ثمن هذه الشروة الجميلة بالجنيه المصري.

أخذت أستنشق بسعادة غامرة هواء نيويورك الإبريلي الساحر، وأنا أنظر متأملاً في ناطحات السحاب المحيطة بي من كل اتجاه وهي تخبئ الشمس خلفها، مستخلصة منها أجمل ما فيها: ضوءها.

دخل الرجل في مجال رؤيتي فجأة، استغربت استئذانه لي بالجلوس بتذلل لا محل له في هذه المدينة على الإطلاق، ملابسه كانت رثة ومظهره كان مزرياً للغاية ونظراته تعرفها جيداً في أعين الذين يسألون الناس إلحافاً؛ لكن حتى فقراء نيويورك المدقعين يعرفون أن الجلوس على الدكك الخشبية الموجودة في كثير من شوارعها حق مكفول للجميع، فلماذا اختار أن يستأذنني في الجلوس.

بعد ثوانٍ أدركت لماذا اختار الجلوس إلى جواري أنا بالذات؟ كانت حقائبي الممتلئة حتى آخرها بالكتب هي السبب، مرت لحظات قصيرة من الصمت سألني بعدها: "سيدي هل لديك وقت لتسمع قصة؟"، قلت له محرجاً: "نعم"، وأنا أفكر في صيغة مناسبة لإبلاغه فور أن ينتهي من قصته بأنني مع الأسف لا أحمل أي فكّة.

في قصته قال إنه كان يعمل جزاراً لمدة 18 سنة في حي هارلم أحد أفقر أحياء نيويورك (مع أن بعض مناطقه الآن قد تغيرت أحوالها كثيراً بعد أن هجم الأغنياء عليها)، وفجأة طرده صاحب العمل بعد أن أصيب بمرض لم أرد أن أسأله عنه لأنه لم يكن يبدو مريضاً أصلاً، أو ربما لأنه كان قد صافحني لتوه، ولم أكن أريد لوساوسي أن تبدأ في السؤال عما إذا كان مرضه معدياً أم لا، أو لأن تساؤلي كان سيقطع شكواه المريرة من انقلاب حاله رأساً على عقب بعد أن دخل إلى دنيا البطالة مضطراً، ولم يفلح في هجرها برغم كل محاولاته.

بعد أن انتهى من ترديد قصته التي كانت متماسكة وكان أداؤه فيها مقنعاً للغاية وكانت خاتمتها مؤثرة عندما حكى فيها عن زوجته ناكرة الجميل التي هجرته وتركت له ابنهما الطفل ليرعاه، قال لي وهو يغصب وجهه على رسم ابتسامة: "سيدي كانت هذه هي قصتي باختصار، أنا الآن أتحمل مسؤولية ابني فهل يمكن أن تساعدنا اليوم في إيجاد طعام إلى أن أنجح في العثور على عمل؟".

كنت قد قررت في منتصف قصته أن أجزل له العطاء، إن لم يكن تقديراً لظروفه، فتقديراً لأدائه؛ لكنه فاجأني عندما أجهش بالبكاء وهو يمسك بالعشرين دولاراً التي أعطيتها له، وبعد أن هدأ قليلاً قال لي بصوت متهدج: " اعذرني فهذا أكبر مبلغ حصلت عليه منذ شهرين.. كنت أتمنى لو كنت أجيد العزف لكي أعزف شيئاً للناس ولا أضطر لحكاية قصتي في كل مرة.. أنت رجل طيب يا سيدي.. أتمنى أن تستمتع بقراءة كل هذه الكتب.. القراءة تجعل الناس يشعرون بآلام الآخرين.. أنا لم أقرأ شيئاً منذ ثلاثين عاماً على الأقل.. حتى ما قرأته وقتها لم أعد أذكره".

كنت خجلاً من نفسي بشدة فقد جعلتني عباراته الأخيرة أدرك أنه كان صادقاً في كل ما قاله لي، أحببت أن أفعل أي شيء لكي أواسيه وأخفف إحساسي بالذنب، أخرجت كتاب أطفال كنت قد اشتريته لابنتي الصغيرة وقلت له: "أعط هذا لابنك سيستمتع به"، هز رأسه بامتنان وقال لي: "لا يا صديقي.. هذا سيؤذيه"، قلت له مندهشاً: "لا تقل لي إنه لا يجيد القراءة"، قال لي: "لا بالعكس هو يذهب إلى المدرسة وسيعجبه الكتاب جدّاً؛ لكنه عندما سينتهي منه سيتمنى لو حصل على غيره وأنا لن أكون قادراً على ذلك.. وهذا سيؤذيه".

أنا الذي كدت أبكي هذه المرة بسبب ما قاله، شعرت أن من واجبي أن أفعل شيئًا آخر لأُبدي تضامني معه، أخرجت من جيبي عشرين دولاراً أخرى ومددتها إليه، فاجأتني ملامح وجهه وهو يهز رأسه قائلاً: "لا لن آخذ شيئًا آخر.. حصلت اليوم على أكثر مما كنت أتمناه.. شكراً لك يا سيدي.. تبدو لي رجلاً طيباً لكن احذر.. نيويورك مدينة كبيرة بها أسماك قرش ضخمة يمكن أن تأكل شخصاً طيباً مثلك في ثوانٍ".

لم يكن لديّ ما أقدمه أكثر سوى كلمات طيبة أتصدق بها عليه، لم يكن لديّ وقت للتفكير في شيء من هراء التنمية الذاتية، كان لا بد أن أرتجل كلاماً مشجعاً وواقعيّاً في نفس الوقت، فقلت له محاولاً منع نفسي من البكاء: "لا تحزن يا صديقي، سينصلح الحال قريباً وستجد عملاً لائقاً، وسيكون ابنك فخوراً بك.. هذه أمريكا أرض الفرص.. وأنت حتماً ستجد فرصة"، ولا أدري ما الذي جعلني أضيف متصوراً أنني ألفت انتباهه إلى النصف الملآن من كوبه المكسور: "هل تعلم أن هناك ملايين في بلادي أفضل حالاً منك وأكثر غنى يحسدونك لأنهم يتمنون الحصول على جنسيتك الأمريكية؟".

ظهرت على وجهه بالعافية ابتسامة مريرة، وقف فجأة وكأنه يعلن أنه لا يريد سماع المزيد مما أقول، ثم قال لي: "إذن أخبرهم عني لعلهم يشعرون ببعض الرضا"، ثم صافحني بحرارة وانصرف تاركاً بصمته المميزة على المشهد الذي كان قبل دخوله فيه يبدو لي كسائح، كامل الأوصاف.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com