الست الدكتورة
الست الدكتورةالست الدكتورة

الست الدكتورة

"خريجة طب، بشري". مع أن أحدًا لم يكن يطلب تلك الإضافة، إلا أن الست الدكتورة كانت تحرص دائمًا على تأكيدها، دون أن تقول لأحد إن ضغطها على مخارج حروف كلمة "بشري"، خلفه رغبة في تأكيد التمايز عن أبيها الطبيب البيطري، وخالها دكتور العلاج الطبيعي، وأخيها الصيدلي.

عندما عيّنت وزارة الصحة صديقتنا الدكتورة البشرية بعد تخرجها في مركز طبي حكومي متهالك يقع في نفس شارعها، حسدها أغلب زملائها، لأنها لن تنفق مليمًا على المواصلات من راتبها الذي لا يعلم الحاسدون من الجيران والأقارب أنه كان يقل كثيرًا عن رواتب عمال المركز الأكبر سناً وأكثر أقدمية.

لم يمر وقت طويل حتى شعرت الدكتورة أنها محظوظة فعلًا، بعد أن رأت المحاولات الحثيثة التي يبذلها زملاؤها المكلفون معها من أجل الحصول على موافقة بالنقل إلى مواقع أفضل، أو التقديم في نيابة للتخصص، أو حتى تقديم الاستقالة للسفر إلى بلاد تقدر المهنة أكثر.

حرصها على شكر النعمة جعلها تحاول الإجادة في عملها كممارس عام، "بتاعة كله" كما قال أبوها لعمها، دون أن تحدد لهجته ما إذا كان ساخرًا أم متفاخرًا: يعني باطنية على أطفال على رمد على جلدية، دون أن يكون في المركز الطبي من هو أعلى منها علمًا لتلجأ إليه في أي حالة حرجة تفوق قدراتها، وحين سألت عما إذا كان ذلك سيرتّب عليها أي مسؤوليات في المستقبل، قالوا لها إن "ربنا أكيد مش هيجيب حاجة وحشة".

لم تكن تتوقع أن مشكلتها في مكان هكذا ستكون مع إدارة المركز الطبي التي كانت من نصيب "طبيب بشري" مثلها طبقًا لتعليمات الوزارة، لكنها اكتشفت أن السيد الطبيب مدير المركز "ليس سوى واجهة ومنظر على الفاضي، لأنه مشغول ببيزنسه الخاص على الدوام، خاصة وقد تصادف أن الرجل ممارس عام خريج دفعة 1967، يعني باع القضية من أيام النكسة، وترك الإدارة لتكون من نصيب من يسميه الجميع "الأستاذ"، وما أدراك ما الأستاذ؟

خريج معهد تعاون يدعي البعض أنه لم يكمل تعليمه، ولذلك فهو يحب تطليع عُقد نقصه على الأطباء والطبيبات، فلا يسمح بأن ينصرف أي منهم، إلا بعد موافقة شخصية من الأستاذ، الذي كانت مطالبة هي وزميلاتها بتحمل نظراته الوقحة القبيحة، التي تقوم بفرز وتصنيف الشخصية التي تطلب إذن الانصراف، من حيث تفاصيل القوام والرشاقة وصفاء البشرة.

كلما كانت بشرتِكِ صافية، وعلى قدر من الجمال، وخفة الدم والدلال، ورخامة الصوت، وعدم رخامة الطبع معه، كلما كانت حياتكِ أسهل لدرجة أنك يمكن أن تمضي على حضور وانصراف وأنتِ تجلسين في بيتكم، وكيف لا وكل شيء في المركز في يد الأستاذ: ختم النسر الذي هو عهدة الطبيب المدير عند الأستاذ، وخط التليفون تحت يد الأستاذ الذي يحتل أكبر غرفة في المركز فيها عدد 2 شباك، وبخور، ومعطر جو، وعلم مصر، وطبعًا صورة السيد الرئيس، أي رئيس وكل رئيس.

عدم حب الست الدكتورة للمعطّر، والبخور، والنظرات الوقحة، جعلها على غير وفاق مع الأستاذ وغرفته، ليكثر كلامها عن اللوائح والحق والصح والأصول، دون أن تعلم إلى أي حد هو نفوذ الأستاذ لدى مدير المركز، ومن هم فوق مدير المركز، ليشتغل الأستاذ لها في الأزرق: نوبات تفتيش صارمة تجري فقط في فترات مناوبتها.

ولأن الأستاذ يعرف ربنا حق المعرفة، فهو يُحلِّف كلًا من الممرضة، والكاتبة، والعمال المناوبين، على المصحف، لكي يخبروه بمواعيد وصولها وانصرافها، وحين تتأخر ولو لدقائق يسارع إلى كتابة مذكرة كفيلة بخراب البيوت، يؤشر عليها المدير الطبيب دون مناقشة، ويتم تحويلها بعدها هي ومن يتشدد لها إلى التحقيق الذي يتحدد فيه الجزاء قبل انعقاد التحقيق مراعاة لأصول الزمالة بين قدماء الموظفين.

كان كل هذا كومًا، وما حكته لنا الست الدكتورة عن حملات التطعيم كان كومًا آخر، لأنه لم يكن يتعلق بالتعامل مع فساد موظف بعينه يمكن أن يكون شخصًا معقدًا أو خرب الذمة، أو فساد علاقات عمل تجعلنا نفهم الكثير مما نسمعه عن الخراب الصحي، بل كان ما حكته لنا يتعلق بالتعامل مع إعصار فساد ضرب عقول الناس وقلوبها.

حين خرجت الست الدكتورة كمشرفة على 4 فرق لحملات التطعيم، لم تتخيل أنها تتعرض هي وزميلاتها خلال 3 أيام هي زمن الحملة، إلى أبشع وأسوأ ما يمكن أن تتعرض له أنثى، بدءًا من مشي الشباب المتعطل عن العمل، وبلطجية الحارات، وأولاد المدارس، وراء فرق التطعيم بالست والسبع ساعات، ليسمعوهن أقذع الألفاظ، ولتتعرض كل منهن لمحاولات تحرش لا حصر لها، ربما لم تتحول إلى حوادث اغتصاب إلا بفضل وجود السرنجات التي تتحول إلى أسلحة دفاع عن النفس.

ناهيك عن رجال كبار "شكلهم محترمين" كانوا يصرون على فتح الباب للطبيبات من غير ملابس معتقدين أن الطبيبة لن تقاوم إغراء دعواتهم الضاحكة "ما فيش حد غيري في البيت.. عايزك تطعّميني"، لتتدحرج الطبيبات بنات الناس من الرعب على السلالم بأقصى سرعة للنجاة بأنفسهن.

ثم أضف إلى كل ذلك جميع الأمهات، ونصاحة بعضهن اللواتي أصبحن مقيمات طيلة اليوم أمام وصلة الدِشّ مما يجعلهن غير عارفات بالدنيا وما يجري فيها من حملات تطعيم تعلن عنها القنوات المحلية التي لم يعدن يشاهدنها، فيطالبن الطبيبات بتحقيق شخصية، ولأنهن لا يعرفن القراءة، يوقظن أبناءهن الشُحوطة المتعطلين عن العمل لقراءة تحقيق الشخصية، قبل أن يعتذرن للطبيبات لأنه لا يوجد في البيت أطفال صغار، قائلات لهن بكل رخامة الدنيا: "والنبي عايزين نطعّم العريس ده، ما تطعّميهولنا".

حكت لي الست الدكتورة كل هذا ثم قالت لي بابتسامة عريضة مريرة: "يا ترى لو حكيت كل ده لبنتك هتفضل تقول لك عايزة لما أكبر أبقى دكتورة".

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com