الملل من الديمقراطية
الملل من الديمقراطيةالملل من الديمقراطية

الملل من الديمقراطية

ذات مرة، كان القادة الإسرائيليون يتغنون ويتباهون كثيرًا بالديمقراطية، وكانوا يحرصون على إظهار هذه الديمقراطية بأنها كنز للغرب، من خلالها يتفوقون على العالم العربي، ويقيمون "تحالفًا قيمًا" مع "العالم الحر" بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبرون هذه القيم بطاقة الدخول إلى العالم المتمدن، وبوليصة تأمين لمستقبل الدولة العبرية بين البشر.

ومع أن هذه الديمقراطية كانت دائمًا منقوصة، خاصة في تعاملها مع المواطنين العرب في إسرائيل، ومع اليهود الشرقيين الذين هاجروا أو هُجّروا من الدول العربية إلى إسرائيل ومع قوى اليسار اليهودية، وعلى الرغم من أن هذه الديمقراطية قبلت على نفسها إدارة حكم عسكري بين العرب ثم إدارة سلطة احتلال فرضت نفسها بقوة السلاح وجبروته على ملايين العرب والفلسطينيين.

إلا أن هناك حيزًا واسعًا من الديمقراطية بقي بارزًا فيها، تمثل بالفصل الواضح للسلطات، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحرية تعبير واسعة وحرية تنظيم حزبي كبيرة وتعددية فكرية ثرية وصحافة استقصائية نشطة جعلتها سلطة رابعة، تحارب الفساد وتكشف العورات، وتحمي المستضعفين، وتطيح بحكومات، وتوصل رؤساء إلى قفص الاتهام وحتى السجن.

كما تمثل ذلك في تداول السلطة بشكل سلس، وفي مجال حرية واسع في الأكاديمية ومعاهد الأبحاث وحرية الإبداع.

وترافق ذلك كله مع ازدهار اقتصادي حقيقي، ونهضة علمية، وتقدم كبير في التكنولوجيا، وهذا كله جعل العيش فيها يطيب، برغم الحروب غير الضرورية، والمعارك الدموية، والصراعات القومية والإثنية.

بيد أن من يتابع الأوضاع في إسرائيل في السنوات الأخيرة يشعر بأن هناك تراجعًا كبيرًا عن القيم الديمقراطية، ويبدو أن قسمًا كبيرًا من السياسيين تعبوا وأصابهم الملل من هذه الديمقراطية..

ولم تعد هناك مشكلة في سنّ قوانين مستنبطة من نظريات التفوق العرقي، كما في قانون القومية الذي يميز بصورة فظة لصالح اليهودي مقابل العربي، ولم يعد هناك خجل في إطلاق تصريحات عنصرية، والمساس بحقوق الإنسان، وملاحقة جمعيات المجتمع المدني المناضلة من أجل حقوق الانسان، ولم يعودوا يترددون في اتخاذ قرارات وإجراءات تمس بحرية العبادة وتدوس على مقدسات.

وتجد المجتمع الإسرائيلي غير متأثر من اغتيال صحفيين ولا حتى من اعتداء رجال الشرطة على جنازة شيرين أبو عاقلة، ولم تعد هناك مشكلة في أن تقوم محكمة عليا يقودها جهابذة القانون بإصدار قرارات تخلد التمييز العنصري، ونهب الحقوق، وأن يقوم كبار المشرعين في الكنيست بسنّ قوانين تقيد عمل البرلمان، ويُقدم رئيس وزراء ووزراء ذوو خبرة سياسية طويلة، على زعزعة الخريطة السياسية، وجر المواطنين إلى 4 انتخابات في عامين، والتحضير لجرهم إلى انتخابات خامسة، وكل ذلك في سبيل خدمة مصالح ضيقة لشخص أو لحزب معين.

إسرائيل 2022 تبدو في غربة عن الديمقراطية.. والمذهل أن الابتعاد عن الديمقراطية لا يأتي من طرف السياسيين والحكام والأحزاب فحسب، بل أيضًا من الجمهور نفسه.

66 % من المواطنين اليهود في إسرائيل مثلًا يعارضون وجود حزب عربي في الائتلاف الحكومي. وحوالي 80 % من الجمهور العام (اليهود والعرب) لا يثقون بمؤسسات الدولة.. زعيم سياسي كبير مثل بنيامين نتنياهو يقبع في قفص الاتهام، حيث يحاكم بثلاث تهم فساد خطيرة، وعندما يسأل الجمهور عن القائد السياسي النسب لرئاسة الحكومة يختاره 46 %، عمن يحل بعده (بنيت لبيد 24 %، بنيت 21 % وغانتس 11%).

وغالبية الأحزاب في إسرائيل تخوض الانتخابات دون برنامج عمل سياسي، وأوساط واسعة من الجمهور تؤيد الممارسات الإسرائيلية في المناطق المحتلة، بما في ذلك قتل مدنيين، وهدم بيوت، وتشريد أصحابها، وتعذيب معتقلين.

صحيح أن مظاهر العنصرية والبعد عن الديمقراطية تتنامى في دول غربية أيضًا، وأحزاب النازية الجديدة تنتشر وتزداد قوة في الكثير منها، ولكن التراجع في إسرائيل يبدو أقوى وأسرع وأشد خطورة.

وإذا أخذنا بالاعتبار أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ما زال ملتهبًا وحصد حتى الآن حياة 224 ألف شخص، 24 ألف إسرائيلي و120 ألف فلسطيني و80 ألف عربي، فإن التراجع عن تلك القيم يصبح مأساويًا أكثر.

فقط قبل أسبوعين خرج النائب يوآف غالانت، وهو جنرال متقاعد ووزير إسرائيلي سابق، ووزيران سابقان آخران من حزب الليكود نفسه، يسرائيل كاتس، ودافيد عمسالم، بتهديد العرب بنكبة ثانية.

وينبغي أخذ تهديداتهم بمنتهى الجدية، إذ إن لسان حالهم يقول: "ها هم ملايين السوريين، وملايين العراقيين، والليبيين، واليمنيين، يجدون أنفسهم لاجئين خارج الوطن، وكذلك الأوكرانيين والإفريقيين، والآسيويين، والعالم لم يتحرك لمعاقبة المسؤولين.. فما المانع من تنفيذ ترحيل جديد في المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل؟".

والسؤال: "ما المانع؟"، مؤلف من كلمتين، لكن خطورته بحجم وطن، على الطرفين. وهناك كثيرون لا يدركون ذلك.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com