شُح السيرة الذاتية
شُح السيرة الذاتيةشُح السيرة الذاتية

شُح السيرة الذاتية

كثيرا ما يتساءل المعنيون بالأجوبة عن أسئلة انحدار مستوى الممارسة السياسية، عن سبب غياب مذكرات الذين شغلوا وظائف رفيعة عامة وكانوا في دوائر اتخاذ القرار، أو أدباء رحلوا ودُفنت معهم أسرار تجاربهم.

وبالفعل كان لافتا في العقود الأخيرة، عزوف الشخصيات العربية التي اشتغلت في العمل العام، عن كتابة مذكراتها لراحة ضمائرها. أما القلة التي كتبت، فقد روت بطريقتها أحداثاً شهدتها، لكي تخدم وجهة نظر محددة. وكذلك الكثير من الأدباء وما يسموّن “نجوم” الفن. ولوحظ أيضاً أن من تجرّأ من الأدباء وكتب وسجّل رواية مّا عن نفسه، إما كان مهاجرا، أو إنه ظل حذراً، تحاشى تماماً كتابة سيرة الحياة، باعتبارها فناً أدبياً فيه بوح شخصي، مشغول بقالب فني. فالساسة يموتون ويدفنون مع أسرارهم، ويقع الأجل المحتوم في غمرة معاركهم أو خصوماتهم وسجالاتهم، وإن نُشرت مذكرات دونوها قبل الموت، سيُحرم المغفور له من إحدى أهم مزايا القبر، وهو الصمت الذي يوجب صمتاً بالمقابل، يسهل فيه على الخصم الحي، أن يستوثق بما قيل عن الرسول المصطفى عليه السلام: “لا تذكروا هلكاكم إلا بخير”!.

ربما ينطبق هذا على المسؤولون وصانعي القرارات، ومحدثي الثراء، وقادة الحركات السياسية والاجتماعية، الذين عزفوا وهم أحياء، عن تسجيل تجاربهم ومذكراتهم وأحجموا عن إبداء الرأي وتنازلوا عن شهادة للتاريخ، وفرضوا على ضمائرهم حياداً سلبياً، وكان نادراً من احتفظوا بمذكراتهم ورسائلهم وشغلتهم فكرة الإسهام في الذود عن الحقيقة في خواتيم حياتهم!

أدب السيرة الحديث، جنس من الكتابة نشأ في الغرب، ولعله بدأ في إسبانيا في القرن الخامس عشر. وظل هذا الأدب، يلتزم شروطه التي يدل عليها اسمه باللاتينية إذ ينسبه إلى الذات الإنسانية التي تروي وقائع حياتها. فليست سيرة مكتملة تلك التي تقص على القراء حكايا تقول إنها كانت شاهدة عليها. فالشرط الأول، للسيرة، أن يقدم الراوي نفسه لقارئه بموضوعية وصدق وتجرد، وإلا فإن العزوف عن الكتابة أفضل له، لأن التضليل سيكون له من يدحضونه. فالسيرة السيرة الذاتية، يصارح فيها صاحبها نفسه أو يعترف أمامها: في أيّ بيت نشأ وكيف عاش وماذا فعل وبمن تأثر وما هي أخطاء حياته وأسبابها ونجاحاته وأصحاب الفضل فيها عليه. فالعنصر الذاتي في المذكرات والسير، أمر جوهري، تقاس عليه موضوعية الراوي. وإن كان لا بد من بعض النزعة الذاتية؛ يتفاوت الناس في إعجابهم بأنفسهم، وبما حققوه من نجاحات ويختلف مدى المبالغة بين راوٍ وآخر، وإن كانت الـ”أنا” حاضرة في أذهان الرواة.

كان أوائل العرب الذين قدموا أدباً من جنس السيرة الشخصية مكتملة الأركان، هم الذين احتكوا بالغرب. ويُعد كتاب “الأيام” لطه حسين، من بواكير أدب السيرة الشخصية بالمعنى الفني باللغة العربية، كأنما حذا فيه عميد الأدب حذو جان جاك روسو، في كتاب اعترافاته الذي نشره في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر. وفي حقبة طه حسين، يُحسب من بين نوع السيرة المكتملة، ما كتبه الأديب الفلسطيني خليل السكاكيني، منذ يوميات نيويورك واشتغاله حمالاً في العشرية الأولى من القرن العشرين، وانتهاء بكتاب سيرته الموسوم “كذا أنا يا دنيا” الذي نشر بعد وفاته، واشتمل على أريحية في البوح لرجل مثقف، أسرف على نفسه. وهناك الروائي المغربي محمد شكري، الذي قدم سيرة ذاتية أكثر اكتمالاً واعترافاً، في “الخبز الحافي” التي أصدرها أولاً بالعربية في سنة 1972. وهؤلاء جميعا ومعهم قلة أخرى احتكوا بالغرب.

العرب

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com