رموز السياسة
رموز السياسةرموز السياسة

رموز السياسة

الرموز مهمة جدًا، يمكنها أن تحدث أزمات في السياسة أو انفراجات.

عندما دعا نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون، السفير التركي في تل أبيب أحمد أوغوز تشيليكول، لجلسة توبيخ بسبب انتقادات الرئيس رجب طيب أردوغان للسياسة الإسرائيلية في لبنان، تعمد أن يُجلسه على كنبة منخفضة، فيما جلس هو ومساعده على كرسيين عاليين. حصل ذلك، في العام 2010، وحتى اليوم لم تتصلح العلاقات مع أنقرة.

وعندما أراد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت، إقناع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بأنه صادق في جهوده لتسوية الصراع بين الشعبين، تعمد رفع العلم الفلسطيني فوق مقر رؤساء حكومات إسرائيل.. والتاريخ السياسي مليء بالنماذج الأخرى.

السياسيون بشر، ويتأثرون بالرموز؛ فكم بالحري في عصر الإنترنت والشبكات الاجتماعية، حيث بات الشعب شريكًا في صناعة الأخبار، وإقرار السياسات.

عندما أعلن عن لقاء وزراء الخارجية العرب مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في إسرائيل بضيافة وزير الخارجية يائير لبيد، صاح المعترضون العرب: "هذا اعتراف بضم القدس"..

ولكن، فجأة أعلن مكتب لبيد أنه اختار للقاء موقعًا صحراويًا في النقب، يُدعى سديه بوكير، أهميته أنه بلدة تعاونية أسسها دافيد بن غوريون، عندما قرر اعتزال السياسة، واعتكف في براكية من الزنك فيها، حتى آخر أيامه. وبحسب طلبه، تم دفنه هناك وليس بين قبور "قادة الأمة" في القدس.

وهنا، راح المعترضون يهاجمون اللقاء، لأنه يجسد الرضوخ العربي للإرادة الصهيونية، حيث إن بن غوريون هو قائد الحركة الصهيونية، ومشاريعها الاستيطانية، ومسبب نكبة الشعب الفلسطيني، وبدا أن زيارة ضريحه، أو مجرد انعقاد لقاء سياسي قرب ضريحه، هو استسلام عربي أمام الحركة الصهيونية.

وليس فقط العرب.. ففي اليسار الإسرائيلي أيضًا، اهتموا باختيار المكان، وكتب رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" العبرية، ألوف بِن، أن "أهمية اجتماع وزراء الخارجية، تكمن في مجرد انعقاده".

ولا ينبغي الاستخفاف بمكان الاجتماع، وهو كيبوتس "سديه بوكير"، الذي قضى فيه زعيم الحركة الصهيونية، ومؤسس إسرائيل، ورئيس حكومتها الأول، دافيد بن غوريون سنواته الأخيرة. فهل سيزور وزراء الخارجية العرب قبر بن غوريون، مثلما اقترح مضيفهم، وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لبيد؟

بنظر الفلسطينيين، بن غوريون هو المسؤول الأول عن النكبة، في العام 1948، والرجل الذي أشرف على إبعاد الفلسطينيين عن إسرائيل (الترحيل، والتهجير، وما رافقهما من مذابح جماعية في أكثر من 40 بلدة فلسطينية) ومصادرة أراضيهم، وقمع الباقين في البلاد، وزيارة قبره ستمثل صفحة جديدة في علاقات إسرائيل مع العالم العربي، من دون الفلسطينيين، تمامًا مثل "اتفاقيات أبراهام" التي تجاهلتهم.

لا أدري إن كان أصحاب القرار العرب أعدوا دروسهم جيدًا، قبل الموافقة على مكان اللقاء، أم أنهم اعتمدوا على أقوال لبيد وحدها، بأنه أراد إجراءه "في مكان جميل، وبعيد في الصحراء على نمط منتجع "كامب ديفيد" الأمريكي، الذي شهد عدة مفاوضات تاريخية لصنع السلام، كما حصل في زمن الرئيس جيمي كارتر، الذي جمع هناك الرئيس المصري أنور السادات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحيم بيغن، ولم يتم الخروج إلا باتفاق.

ولكن، لو أجروا دراسة جدية مهنية، فسيجدون أن بن غوريون فعلًا هو أكبر مسؤول إسرائيلي عن نكبة الفلسطينيين، ولكن، سيجدون أيضًا أنه خلال السنوات الأخيرة من حياته أجرى حسابًا للنفس معينًا، واتخذ قرارات معاكسة لسياسته النمطية العدوانية. ووقف في وجه كل وزرائه تقريبًا، وأمر بسحب قواته من سيناء المصرية، العام 1957، التي كان احتلها خلال العدوان الثلاثي، وعارض خطة الحكومة الإسرائيلية لشن حرب 1967، وبعد الاحتلال دعا إلى الانسحاب من الغالبية العظمى من الأراضي المحتلة مقابل عملية سلام، وقام بدعوة عدد من القادة السياسيين العرب الوطنيين من فلسطينيي 48، ودخل في حوار معهم، وكان بينهم القائد الوطني توفيق طوبي، فسأله: "هل تعتبرني ظالمًا لشعبك؟".

فإذن، إن كان من رمزٍ في اختيار هذا المكان للاجتماع المذكور، فهو رمز معاكس، وليتنا نرى قادة إسرائيل، بوحي من سديه بوكر، وبن غوريون، يجرون حسابًا للنفس، ويتعلمون من التاريخ شيئًا، ويعدّلون سياستهم العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني، ويجنحون إلى السلام، المبني على أساس حل الدولتين، ويساهمون بذلك بوقف معاناة الشعبين، ويبعثون الآمال في حياة الأجيال القادمة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com