جنازة أهم من دولة
جنازة أهم من دولةجنازة أهم من دولة

جنازة أهم من دولة

نظير مجلي

"لا تصل إلى تل أبيب.. نؤجل الاجتماع إلى موعد لاحق"..

هذه الرسالة النصية انتشرت بعشرات ألوف النسخ في إسرائيل ليلة السبت الأحد الماضية. وبالفعل، ألغيت ألوف الاجتماعات.. ومَن كان مثل حالاتي مضطراً إلى السفر ولم يستطع تأجل اجتماعه، حظي بهدية من السماء، فقد خلت الشوارع من السيارات تقريباً، واختفت الزحمة والضوضاء، وبدا أن الحياة تقترب من أن تكون طبيعية.

كان السبب في هذا جنازة.. أجل جنازة.. لكن الميت الحاخام حايم كانبسكي، هو رجل دين مهم، شارك في تشييع جثمانه أكثر من 350 ألف شخص..

والمتابعون للشأن الإسرائيلي يعرفون أن والد هذا الحاخام، الذي توفي في سنة 1985، كان أهم منه بكثير، ويعتبر المفتي الأول لليهود المتزمتين، ولكن إسرائيل لم تغلق أبوابها من أجله آنذاك، والشرطة لم تطلب من الناس إلغاء سفرهم إلى تل أبيب، فقد كان تأثير المتدينين هنا قليلاً.

أما اليوم، فإسرائيل تنعطف في السياسة إلى اليمين، وفي التدين إلى التزمت..

ومع أن غالبية مواطنيها اليهود ما زالوا غير متزمتين، علمانيين أو متدينين معتدلين، فإن تأثير المتدينين يكبر ويتضاعف، ويحل، ليس فقط على الحياة الاجتماعية، بل أيضاً على الحياة السياسية.

وكابنسكي الأب كان قد أسس أول حزب يهودي متدين، "ديغل هتوراة" (وتعني علم التوراة)، الذي تحول إلى أهم وسيلة دعم لحكم بنيامين نتنياهو السابق طيلة 12 عاماً متواصلة، وأقوى ضمانة لحكم اليمين أيضاً قبل نتنياهو، وبات تأثيرهم بارزاً في كل جنبات الحياة.

على سبيل المثال، حاولت الشرطة إقناع قادة الحركات الدينية الأصولية وعائلة كابنسكي دفنه يوم السبت، حتى لا تشوش على الحياة والأعمال في يوم الأحد، مطلع الأسبوع.. ولهذا الغرض جلبت فتوى من عدة رجل دين يؤكدون مبدأ "إكرام الميت دفنه"، لكنهم رفضوا.

أعدت الشرطة نفسها لخطة شبه عسكرية لتنظيم الجنازة في محيط بلدته بني براك، فأغلقت الطرقات والمحاور الرئيسية في منطقة المركز ومحيط تل أبيب وفرضت شللاً شبه كامل، يشمل تعليق التعليم بمئات المدارس ورياض الأطفال، وكذلك تشويشاً في حركة الطيران والقطارات والمواصلات العامة، وازدحاماً مرورياً غير مسبوق..

وشارك نحو 3 آلاف شرطي فقط لتأمين موكب الجنازة، وقررت وزارة التربية والتعليم تعليق التعليم في 100 مدرسة و300 رياض أطفال، وكذلك في جامعة "بار إيلان" والجامعة في مستوطنة "أرئيل"، على أن تنتظم الدراسة عن بُعد عبر "زووم"، وتم وضع المستشفيات في حالة تأهب لواجهة خطر وقوع إصابات..

وبثت جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية موجات مفتوحة قبيل وخلال موكب الجنازة، وظهر عشرات السياسيين ينافقون المتدينين فيتحدثون عن عبقرية الرجل والخسارة الفادحة.

مما لا شك فيه أن كابنسكي كان شخصية دينية قيادية ذات شأن وله أهميته، مثل كل رجل دين اشتغل على نفسه، وتعلم ودرس وتواضع ولجأ إلى التفهيم بدل الترهيب والتعليم بدل الفرض والإملاء.. ولهذا سار وراءه جمهور غفير.

لكن المبالغة في تقديره لحد التقديس، أثارت انتقادات لافتة، وكان هناك مَن اعتبرها "مبالغة شديدة" وقالوا إن تصرف الحكومة والأحزاب أظهر الجنازة أكبر من الدولة، وكان هناك مَن اعتبرها "تدهوراً خطيراً لإسرائيل، أم العلوم والتكنولوجيا، نحو مصاف الأمم التي تسير بشكل أعمى وراء رجال دين يستغلون بساطة الناس لأغراض سياسية وحزبية وفئوية".

في إسرائيل 2022، شوهد بعض أتباع هذا الحاخام وهم يقفزون عن الأسوار في محاولة لمس جثمانه للتبرك منه أو اقتطاع رقعة من ملابسه أو الاحتفاظ بـ "تذكار" من بيته وأغراضه، بل تم ضبط أحد المهووسين به وهو يقترب من النعش لاقتطاع شيء من كفنه، أكثر من مئة شخص أصيبوا بجراح وهم يغامرون بالوصول إليه.

وتساءل بعض المتفوهين في الإعلام – "لماذا نسير بعمى وراء رجل طاعن في السن تجاوز الرابعة والتسعين من العمر؟". لماذا نسمح بتغييب العقل إلى هذه الدرجة؟

الطريف، أن مجلس أتباع الحاخام كابنسكي، اجتمع ليقرر كيفية استمرار الحياة من بعده. فاختاروا وريثاً له، يحل محله ويدير شؤون الطوائف الدينية اليهودية الأرثوذكسية، مكانه، هو الحاخام غرشون ادلشتاين، الابلغ عمره 99 سنة.

Related Stories

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com