تصحيح التاريخ بتعديل الجغرافيا
تصحيح التاريخ بتعديل الجغرافياتصحيح التاريخ بتعديل الجغرافيا

تصحيح التاريخ بتعديل الجغرافيا

مصطفى أبو لبدة

أيّد الرئيس السوري مبدأ "تصحيح التاريخ" بالقوة.. فجَفل لبنان.

شحنة الريبة اللبنانية، عبّرت عنها قنوات فضائية مؤثرة، لكن أحدًا من الجهات الرسمية لم يتحدث بالموضوع، وهو أمر مفهوم.

عواصم أخرى في بيئة سورية الكبرى لا بد استشعرت أن الحديث في دمشق عن صواب، بل ووجوب تصحيح الأخطاء التاريخية بين دول الجوار، هو لغة مستعادة حمّالة للوجع، جلّابة للكوابيس.

تصحيح التاريخ، كما سبق ودعا له، أو نفذته زعامات عربية سابقة، يعني إعادة ترسيم الجغرافيا بوسائل أخرى غير التراضي، وأن تؤيد روسيا في تصحيحها للحدود مع أوكرانيا، بالقوة، يعني أنك تقبل ـ بل وتُلزم نفسك- بما ارتضيته للآخرين.

جاءت اللقطة أو الشحنة الكهربائية، في بيان لرئاسة الجمهورية السورية يوم الجمعة الماضي، بعرض ما تم في الاتصال الهاتفي الذي جمع الرئيس بشار الأسد مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في أعقاب غزوه أوكرانيا..

البيان أزاح قليلًا النصوص البروتوكولية المألوفة والمكررة، واستخدم خطابًا من سويّة "أما بعد.."، فلفت النظر إلى ما قد تكون "رسالة يُراد تسميعها لمن يهمه الأمر؛ فقد كان الرئيس الأسد، قبلها ببضعة أيام، استقبل وزير الدفاع الروسي الذي وصل سوريا لتفقد سير مناورات البحرية الروسية في شرق المتوسط.

قال البيان إن الرئيس الأسد أكد أن "ما يحصل اليوم (يقصد دخول الجيش الروسي إلى أوكرانيا) هو تصحيح للتاريخ وإعادة للتوازن إلى العالم (....)، وأن الهستيريا الغربية تأتي من أجل إبقاء التاريخ في المكان الخاطئ".

رسميًّا، لم يكن ليبدو لائقًا من أي من دول الجوار أن تحكي في موضوع يبدو في ظاهره أنه لا يخصّها، فهو فزعة لموسكو الحليف الراعي، لكن ذلك لم يمنع الذين تناولوه في لبنان، من أن يقرأوا فيه إيحاءً مشفرًا بأن بلاد الشام، سوريا الكبرى، يمكن أن تفتح جبهة إقليمية تزيح الكاميرا عن الذي يجري في أوكرانيا.

استذكروا في لبنان الأدبيات السياسية المتوارثة في دمشق، قبل ومع حزب البعث، والتي ترى أن فصل لبنان عن سوريا في سايكس بيكو 1916 كان خطأً تاريخيّا، وأن الإصرار السوري على عدم ترسيم الحدود البحرية ومعظم الحدود البريّة بين البلدين، هو من باب التذكير اليومي بأن "التاريخ ما زال في المكان الخاطئ".

أكثر من ذلك، فقضية التنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية لم تعد مرهونة فقط بترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، بل أيضًا بالحدود مع سوريا.. وللدقة، فهي باتت مرهونة بالاتفاق مع روسيا.

في مثل هذه الأيام من العام الماضي، وافق البرلمان السوري على عقد بين وزارة النفط وشركة كابيتال الروسية، تحصل فيه الأخيرة على حق التنقيب عن البترول في بلوكين يعتبرهما لبنان ضمن مياهه الإقليمية.

وبذلك، وجد لبنان نفسه مشبوكًا بقضية، من الدرجة الأولى في الأهمية، أطرافها الأخرى في دمشق وموسكو، ولا يستسيغ حزب الله أن تتم إحالتها للتحكيم الدولي، لما في ذلك من إحراج أو تشهير بهما.

الأخطاء التاريخية بين دول الجوار، كالتي تحدّث بها بيان الرئاسة السورية، تصبح واجبة التصحيح عندما تُنتج انكشافًا أمنيًّا لا يعود بالإمكان التسامح معه، تصحيحه يعني بالضرورة تغييرًا في الخريطة الجيوسياسية مع تبديل في المجال الحيوي، لا قيمة في ذلك للقانون الدولي ما دام الاحتكام هو للقوة.

لكن، أي تاريخٍ هو الذي يُراد تصحيحه في بيئة سوريا الكبرى؟ التاريخ الذي يعود إلى سنوات الربيع العربي العشر الماضية أم الذي يعود إلى حرب حزيران 1967 أم الذي يتسلسل إلى سقوط الدولة العثمانية وتجزئة بلاد الشام إلى خمس دول أو ست؟
الجواب لعله في الحكمة السياسية التي تقول "نحن ما نتذكّرُه؟ أي أنك تختار البدء بتصحيح الخطأ التاريخي الأكثر حضورًا وإلحاحًا من طرف المشمولين فيه.

والمشمولون في الاتهامات المتبادلة بتزوير التاريخ في سوريا الكبرى أربعة أطراف لدى كل منها الكثير مما تتذكره وتراه حقًّا تاريخيّا يستوجب التصحيح: أهل البلاد وتحيط بهم إيران وإسرائيل وتركيا.. وإن شئت فهم 4+ 1 إذا أضفتَ إليهم داعش التي كانت ألغت حدود سايكس بيكو بين سوريا والعراق، والتي يُقال الآن إنها مرصودة لمرحلة مقبلة مختلفة مع رئاستها الجديدة التي لم يتم الإعلان عنها، بعد مقتل زعيمها السابق أبو إبراهيم القرشي.

يصعب التصور أن الرئيس الروسي لم يكن يدرك أنهم في الولايات المتحدة وبريطانيا، كقيادة للمعسكر الغربي، أرادوا أن يجعلوا من أوكرانيا فخًّا، إن لم يطيحه كقيادة وحلم، فعلى الأقل سيستنزف روسيا لعشر أو لعشرين سنة مقبلة من الحرب الباردة.

هم يريدونها في أوروبا، وهو يريد أن يوسع الحرب الباردة لتشمل ما كانت روسيا القيصرية تسميه "الشرق الأوسط وآسيا الصغرى"، وربما أيضًا جنوب البحر المتوسط، ولا بأس بالنسبة لموسكو إن تعطّل اتفاق "النووي الإيراني" لما في ذلك من توسيع لرقعة استنزاف الماكينة الأمريكية.

في مقابلة مع شبكة "إم إس إن بي سي"، يوم الاثنين الماضي، شبّهت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون غزو روسيا لأوكرانيا بغزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان عام 1979.

كان تقديرها أن الولايات المتحدة وحلفاءها سيدعمون المقاومة الشعبية في أوكرانيا للأهداف ذاتها التي كانت واشنطن دعمت فيها المجاهدين في أفغانستان، لكي يستنزفوا الاتحاد السوفيتي خصمها في الحرب الباردة، وتنهي بذلك النظام العالمي ذا القطبين.

وهي تعقد المقارنة المحرجة، تذكّرتْ كلينتون أن القصة أعقد من ذلك وأن الحرب الباردة أدعى للاستدامة، ضحكت وقالت إن مجاهدي أفغانستان، الذين دعمناهم أفرزوا تنظيم القاعدة الذي نفذ عملية الـ11 من سبتمبر.

وكانت بذلك تعيد التذكير أن أحداث سبتمبر أنجبت غزو العراق الذي شاركت فيه إيران ثم دخلت سوريا وأصبحت، مع إسرائيل وتركيا، لاعبين أساسيين في بلد تهجس قيادته الآن بأن تدعم السوفيت من خلال التلويح بتصحيح التاريخ وإعادة ترسيم الجغرافيا في بيئة سوريا الكبرى.

يقال إن السياسة الخارجية هي فن إعادة ترتيب الأولويات، وإذا صحّ أن القيادة السورية، بعد تعثر جهود تأهيلها لتعود للجامعة العربية، جادة الآن في إعادة جدولة أولوياتها لتبدأ ما تسميه تصحيح أخطاء التاريخ مع دول الجوار، بدعم من القيادتين الروسية والإيرانية، فإن من حق لبنان أن يقلق فعلا، وليس لبنان فقط.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com