عَفْية.. أبو العبد زوكربيرغ
عَفْية.. أبو العبد زوكربيرغعَفْية.. أبو العبد زوكربيرغ

عَفْية.. أبو العبد زوكربيرغ

مصطفى أبو لبدة

قَطْعاً، لم تكن نهاية السنة وبداية أُختها هي المناسبة الأنسب لكي أعود الى الفيسبوك، بعد قرارٍ كنتُ اتخذته عند إنشاء صفحتي على المنصة، والتزمتُه بعدم تشغيلها.

أيامها، قبل نحو سبع سنوات، كنتُ تحت تأثير انطباع تحذيري مُريح، عمَّمتْه تقارير رصينة عن أن وسائل التواصل الاجتماعي على النّتْ تُحدث تغييراً سلبياً حقيقياً وسريعاً في أمزجة الناس وطرائق تفاعلهم.

بعض الخطأ في العودة لتشغيلٍ تجريبيٍ لخاصيات التنبيه والستيتس والتايم لاين على صفحة الفيسبوك، جاء بسبب التوقيت. فنهاية السنة تكون في العادة مصحوبة بضغوط استحقاقات الذاكرة والمخيلة

هي موسمٌ سنوي للتحايا المُستنْسخة، والشجن الضيّق والنبوءات السوداء والنّكات الفظّة، مضافاً إليها في هذه الدورة السنوية للتشتُّت، نشفانٌ وبائيٌ مرعوب في غدد التحضين التي تحفظ درجة دفء ألوان الطيف.

ولذلك تذكرتُ بعد تعطيل صفحتي على الفيسبوك ثم العودة اليها، أن التجربة كانت أقرب لنكتة رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي عن المطلقة إذ تحتفل بعيد زواجها. وهي المقاربة السياسية الداخلية التي أطلقها في الـ23 من نوفمبر الماضي..وتحولتْ يومها الى تْرِند جدلي، كونها سمحت لمخيلة كل امرأة ورجل بأن تشتطُّ في استحضار بعض ما هو مركونٌ في زوايا الذاكرة منْ خصوصياتٍ مُحرجة.

هذه الحال لها ما يشبهها عندما يجري تشغيل خيارات صفحة الفيسبوك قبل ساعات من ختام يوم جمعة صادف أنه نهاية أسبوع ونهاية شهر ونهاية سنة، مع كل ما هو معهود من إشعارات تُقرأ فيها أدعية يُفترض بك أن ترد عليها بمثلها او أحسن منها..

وإنْ لم تفعل فأنت ملامٌ بالتقصير او ما هو أقسى منه من مفردات النفور..

ويصبح حرجك مضاعفاً إذا كان مرسل التحية محترفاً في تتبّع دخولك وفي تصفحه للبوستات ليتأكد أنك قرأت رسالته ولم ترد عليها.

حالةٌ نفسية أخرى مثقلة بالحرج، تجد نفسك فيها عندما يستذكر بعض أصدقائك أن العام المُنتهي شهد وفاة أحد والديه، ويطلب من كل معارفه أن يشاركوه في إزجاء الأدعية، فيما أنت خارج مزاج المشاركة تشكو من الحاجة لمفردات لائقة ومؤثرة.

إحراجُ عدم مشاركتك في التحايا والأدعية واللايكات، يأخذ قوة تسييس أنتَ في غنى عنها، عندما يستذكر صديق نشط على الفيسبوك أنه قبل 16 عاماً جرى تعليق مشنقة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، أو أن الأسبوع القادم هو الذكرى الثانية لاغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، وفي كلّ منهما يتوقع منك أن تتجاوب وتُعقّب.

يصدمك وأنت تعود إلى صفحتك على الفيسبوك بعد سنوات من الهجر، أن تكتشف بأن عدد اصدقائك بالمئات، أسماؤهم مرفقة بصور ذات قيافة وبملامح عمرية غير التي ما زالت عالقة في الذاكرة..

مثل هذه اللقطة يُفترض أنها شيقة، لكن الذي يحصل هو انطباع الحيرة التي لا تستطيع المكوث فيها طويلاً.

دراساتٌ عديدة نُشرت عن "ماذا يعني عدد الأصدقاء والمتابعين لصفحتك على الفيسبوك"؛ بعضها أوغل في تحليل الرقم وارتباطه السلبي بتقدير الذات وبالتكيّف مع أحاسيس الغبن وعدم الرضا عن العلاقات.

ومثلها دراسات عديدة عما يسمى سيكولوجية التدفق، أو متعة الطفو على ماء التنقل السلس بين ما هو مكتوب ومسموع ومرئي من الرسائل الواردة لصفحتك على الفيسبوك.

معظم هذه الدراسات ذهب إلى أن هذه الحال من السباحة في الفيسبوك تصنع في الدماغ نوعاً من الإدمان المُخلّ بقدرة صاحبه على التكيّف، إذ يجد نفسه تحت غِواية إرضاء الآخرين أو استثارتهم.

أشدُّ هذه المفارقات وقعاً على المزاج المتدفق لمتصفح الفيسبوك، تتشكل من متابعة من يُسمّون بالمؤثرين الذين اكتسبوا مهارات استقطاب مئات الآلاف من متابعي ما يتقنونه من علو الصوت وحدّة النبرة في التأييد أو التنمّر أو التجريح.

ويساعد في ذلك أن السوشيال ميديا لم تتقنّن حتى الآن في المواثيق الأخلاقية التي يُفترض أن تضبط المحتوى الإعلامي، وأن تميّز بين الهواية والمهنة في هذا المجال الاتصالي الذي بات مصدراً لدخل غير خاضع للضريبة او المراقبة.

مدمنو السباحة في منصات السوشيال ميديا اكتشفوا في وقت مبكر أن هذه البيئة الاجتماعية التي نشأت وتوالدت كالفطر، اكتسبت من مجتمعاتها العربية الأم، ولاءات التعصب التي كان ابن خلدون تحدّث عنها في صراعات النشوء والارتقاء والتسيُّد.

أضحت السوشيال ميديا عشائرَ وقبائلَ لها شعراؤها الذين يُعلّقون قصائدهم غير المُقفّاة وفيديوهاتهم الخادشة، على ستائر الأُون لاين.

أين تنتهي الشهرة في مجتمع السوشيال ميديا - وهي التي يمكن تصنّعها أحياناً بالهبل المُسفّ؟وأين يبدأ التأثير الحقيقي وصناعة الرأي العام وهو الذي تراقبه أجهزة وحكومات العالم بدقة مذهلة وهو يتشكل في بيئة السوشيال ميديا؟..

هذه مسألة ربما لا تخُصّ الذين تحذّرهم الدراسات المتخصصة بأنماط الإدمان.

قبل بضع سنوات نشر الباحث الهندي أكاش راندهير، ما وصفه بأنه الأسباب الأربعة الرئيسة التي جعلت بعض الناس يكرهون الفيسبوك؛ أولها الحقيقة المؤلمة بأنه لم تعد لك حياة خاصة بك، وثانيها أنه لا أحد يهتم فعلاً بما تفعله أنت، وثالثها أن معظم الناس على النت يستعرضون أفراحهم بطريقة تجعلك ترثي لحالك، ورابعها قائمة الذين يُدرجهم الفيسبوك كأصدقاء لك،إذ تكتشفُ أنك طوال السنة لم تتواصل أو تتحدث سوى مع قلّة منهم، وهو ما سمّاه بالصداقة الصامتة وربما الميتة.

في عودتي التجريبية لصفحتي على الفيسبوك على نَوبتين، مساء الجمعة وصباح السبت الماضيين، تأكدتُ أن المشاركة العاطفية على النت لها دورةٌ مرتدّة تستهلك الطاقة. ولذلك اخترتُ ممارسة متعة الغياب.

هي "لعبة تكاليف" طالما اجتهد الابن الأصغر لخالتي (وهو المدمن على السوشيال ميديا)، في أن يتحدث بها أثناء اللّمة العائلية، عندما ينضب الحكي.

بعد ظهر يوم السبت الماضي، وبينما كان الأهل، سكوتاً محدقين بشاشة التلفزيون في برنامج تقني يعرض لمآلات الفيسبوك بعد أن أعلن راعيها ورئيسها التنفيذي "مارك زوكربيرغ" أنها ستتحول من مجتمع تواصل أون لاين لتصبح منصة حوسبة تركّز على الواقع الافتراضي.

أخذ أبن الخالة زمام الحكي وأخذ يُحطّبُ في تفسير العلاقة بين أنواع الواقع المعيش والواقع الافتراضي والواقع المعزّر..
كلاماً ثقيل الوقع غير متسق، كانت تستمع له أمه بمنتهى الإعجاب.

أما زوجته استاذة الجامعة، والتي طالما اشتكت من إدمانه على السوشيال ميديا، فقد اختارت للحظة بأن تحدّق في وجهه باستخفاف حميم، وتكتفي بالقول: "عفية.. أبو العبد زوكربيرغ".

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com