"فورين بوليسي": طموحات بوتين الإمبراطورية تصطدم بتحديات روسيا الجيوسياسية
"فورين بوليسي": طموحات بوتين الإمبراطورية تصطدم بتحديات روسيا الجيوسياسية"فورين بوليسي": طموحات بوتين الإمبراطورية تصطدم بتحديات روسيا الجيوسياسية

"فورين بوليسي": طموحات بوتين الإمبراطورية تصطدم بتحديات روسيا الجيوسياسية

لا يزال الرئيس الروسي يتنقل في حلقات متسلسلة لفرض نفوذ خارجي، مستمد من إحكام السيطرة في الداخل، ما يجعل فلاديمير بوتين أحدث حلقة في سلسلة طويلة من الحكام الروس الذين يحاولون تحقيق طموح موسكو الثابت.

الآثار المترتبة على الغرب واضحة، فإذا كان بوتين يعتمد نفس نهج الزعماء الروس السابقين، ستنحصر خيارات الرد بين التأقلم مع النزعة التوسعية أو الحرب، ولا أحد يريد الحرب، ولكن ماذا لو لم يسع بوتين لاعتماد نفس نهج الزعماء الروسيين السابقين؟ فقد يكون كل ما في الأمر تعرضه لنفس الضغوط التي يتعرض لها جميع القادة الآخرين، والمتمثلة في تصورات الشعب والأيديولوجيات والموروثات المؤسسية والتطورات التاريخية التي تؤدي إلى اعتماد سياسات ليست في صالح بلاده.

ووفق مقال للكاتب "أليكساندر موتيل" في مجلة "فورين بوليسي"، لا تستطيع أي دولة السعي وراء نفس الأهداف السياسية دون تغيير، طوال تاريخها، لأن الدول والمناطق المحيطة بها دائمة التغير.

وأشار الكاتب إلى أن روسيا المعاصرة ليست مطابقة لـ"دوقية موسكو الكبرى" التي كانت موجودة منذ 600 عام، كما لم يعد الغرب مثل القرون السابقة، وعلى الرغم من بعض أوجه التشابه السطحية، فإن بوتين ليس "إيفان الرابع" المعروف باسم "إيفان الرهيب"، وثبات دولة على وضعها لقرون هو محض خيال.

وقال موتيل إنه مع ذلك، تلعب الجغرافيا والإستراتيجية دورًا مهمًا في تحديد سياسة الدولة، ونتيجة لذلك، تصبح السياسة الخارجية نتيجة الجغرافيا السياسية والمصالح الوطنية والأيديولوجيات ونوع النظام وشخصية الزعيم والوقت وسياق الأحداث العالمية والعديد من العوامل الأخرى.

فهم السياسة الخارجية الروسية، وفق موتيل، يتطلب دراسة تطورها التاريخي، ورؤية روسيا المعاصرة كوريثة الإمبراطورية السوفيتية، وهي قوة مركزية للغاية حددت فيها روسيا السياسات الداخلية والخارجية للجمهوريات غير الروسية، فضلًا عن كونها نتاج الانهيار المفاجئ لتلك الإمبراطورية.

وشرح أن التاريخ مليء بالأدلة على قابلية أهداف روسيا للتغيير، فبالعودة إلى القرن الـ13، ظهرت دولة دوقية موسكو الكبرى (روسيا حاليًا)، كإمارة صغيرة تتنافس على السلطة مع إمارات صغيرة بنفس القدر بجوارها، وكانت جميعها تحاول التعامل مع الغزو المغولي.

وفي عام 1380، هزم "ديمتري دونسكوي" المغول في مدينة "كوليكوفو"، وفي عام 1480، أنهى "إيفان الثالث" وصاية موسكو على نهر أوجرا؛ وبعد 70 عامًا، استولى سكان موسكو على قازان واستراخان.

الأهداف الروسية

وفي ذلك الوقت، لم تكن الأهداف الروسية الحالية التي يبدو أنها غير قابلة للتغيير مثل السيطرة على أوكرانيا أو مضيق البوسفور، تهم أحدًا في موسكو، لأن دوقية موسكو الكبرى كانت بعيدة وصغيرة جدًا، وتركز على التهديد المغولي من الشرق.

وأشار موتيل إلى أن توسع دوقية موسكو الكبرى لاحقًا في سيبيريا، وهي عملية استمرت لحوالي 70 عامًا بين عامي 1581 و1649، كانت مدفوعة إلى حد كبير برغبة المتصيدين للتربح من الحرب والغزو، وليس مصلحة البلاد الجيوسياسية.

وحتى بحلول القرن السادس عشر، لم تكن أوكرانيا والعثمانيون على رادار دوقية موسكو الكبرى، على الرغم من أن ليتوانيا وبولندا والسويد، الذين كانوا متورطين في حروب مع بعضهم البعض ومع دوقية موسكو الكبرى، كانوا مهتمين بهما.

وفي النصف الثاني من القرن الـ17، ضمت دوقية موسكو الأراضي الأوكرانية واقتربت من البحر الأسود نتيجة القتال المتواصل بين البولنديين والروس والعثمانيين وتتار القرم والقوزاق الأوكرانيين، وبالتالي تحولت أوكرانيا والعالم العثماني إلى منطقة ذات أهمية إستراتيجية لموسكو.

وقال موتيل إن الزعيم الروسي "بطرس الأكبر" غيّر تعريف المصالح الوطنية لدوقية موسكو الكبرى من خلال قراره أن دوقية موسكو الكبرى تحتاج للتمدن، بعد زيارة مطولة لأوروبا الغربية، واستجاب لنصيحة رجال الدين الأوكرانيين بأن إمبراطوريته، التي أصبحت تسمى روسيا، يجب أن تدعي وجود علاقة مع دولة "روس كييف" التي تعود إلى القرون الوسطى، والتي تطورت لتصبح أوكرانيا اليوم، ولكن هذه الخطوة الإيدولوجية لم تكن مدفوعة بمصلحة البلد.

وبمجرد اتصال الإمبراطورية الروسية بالعثمانيين وحلفائهم تتار القرم، تفاقمت التوترات بين القوتين العظميين، ولكن توسع روسيا الذي لا هوادة فيه في البحر الأسود بعد حكم بطرس كان نتيجة الضعف العثماني المتزايد وتصور الروس للأتراك كأعداء للمسيحية أكثر من كونه نتيجة الاعتقاد أن السيطرة على البوسفور ضرورة جيوإستراتيجية.

ووفقًا لموتيل، حفزت النزعة الوطنية الروسية والضعف والانحطاط في آسيا الوسطى والقوقاز في القرن التاسع عشر التوسع الروسي، ما أدى أخيرًا إلى إنتاج الإمبراطورية التي انهارت بين عامي 1918 و1921.

نهاية الإمبراطورية

تنتهي أي إمبراطورية بإحدى الطريقتين، فالبعض يتآكل مع مرور الوقت ويخسر أراضيه ليصبح دولة تمتلك الحد الأدنى من الروابط الأيديولوجية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية مع مستعمراتهم السابقة، ونتيجة لذلك، نادرًا ما تشرع هذه الدول بإطلاق حملات لاستعادة الأراضي المفقودة، لأنها تدرك أنها خسرت الأراضي قبل انهيار الإمبراطورية بفترة طويلة.

ويرى موتيل أن العثمانيين مثال على هذه النوع، إذ بدأت خسائرهم بالحصار الفاشل لفيينا عام 1683، وانتهت تقريبًا مع بداية الحرب العالمية الأولى، ومن ثم ظهر قلب الإمبراطورية كدولة تركيا في عام 1919، ولم يكن هدفها الأساسي هو استعادة أراضي الإمبراطورية التي خسرتها قبل 300 عام تقريبًا، بل تأكيد استقلالها والتعامل مع الأقليات اليونانية والأرمنية داخل حدودها.

وهناك النوع الآخر من الإمبراطوريات المنهارة، الذي يتمثل في الإمبراطورية الروسية التي أنشأها بطرس الأكبر، وانهارت بين عامي 1918 إلى 1921، في أوج توسعها الإقليمي، إذ كانت العلاقات الإيديولوجية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية بين روسيا البلشفية ومستعمراتها السابقة لا تزال قوية في وقت الانهيار المفاجئ والشامل لإمبراطوريتها.

وقال موتيل إن البلاشفة شعروا بأنهم مضطرون إلى الشروع في حملة لإعادة الإمبراطورية التي بلغت ذروتها في نهاية المطاف بتشكيل الاتحاد السوفيتي عام 1922.

وانهارت تلك الإمبراطورية بين إعادة الهيكلة التي أجراها رئيس الاتحاد السوفيتي الأسبق "ميخائيل غورباتشوف" والتفكيك الرسمي للاتحاد السوفيتي في 31 ديسمبر 1991، وبين عشية وضحاها، ظهرت 14 دولة مستقلة غير روسية، على الرغم من بقاء العديد من الروابط السابقة التي ربطتهم بروسيا.

واعتبر معظم الروس أن دولتهم وأمتهم متفوقة ولا تزال مكلفة بمهمة تطوير الدول غير الروسية، واستمرت اللغة والثقافة الروسية في الهيمنة على هذه البلاد بفضل عقود من سياسة الترويس السوفيتية، كما استمرت البنية التحتية التي تربط هذه البلاد بروسيا بما في ذلك الاقتصاد وخطوط أنابيب النفط والغاز، تضمن استمرار الاعتماد على روسيا.

وورثت روسيا ترسانة كبيرة من الأسلحة والجيش، في حين كان على الدول غير الروسية أن تسابق الزمن لإعادة تشكيل أجزاء وقطع الجيش السوفيتي التي ورثتها حتى تصبح جيوشًا مستقلة، وكانت النخبة غير الروسية مرتبطة للغاية بالنخبة الروسية، ولم يكن ولاؤهم بالضرورة لدولهم، وأخيرًا، شعر الروس عمومًا ونُخبهم على وجه الخصوص بالإهانة بسبب فقدان الإمبراطورية وكانوا مصممين على استعادة عظمة بلادهم مرة أخرى.

وشرح موتيل أن هذا يفسر سعي بوتين وسلفه "بوريس يلتسن" إلى استعادة الإمبراطورية الروسية، ولكن يلتسن، كان يستخدم القوة الناعمة، ويركز على الترويج لرابطة من الدول المستقلة والدفاع عن الأقليات الناطقة بالروسية في الدول غير الروسية، ولكن عهْد يلتسن شهد الانهيار الاقتصادي الروسي ما بعد الاتحاد السوفيتي، وتحت حكمه ازدهرت الجريمة والفساد.

طموحات بوتين الإمبريالية

أما بوتين فكان محظوظًا بوجوده في المكان المناسب في الوقت المناسب، فعندما أصبح رئيسًا للوزراء ورئيسًا بعد ذلك، كان الاقتصاد الروسي قد بدأ ينتعش أخيرًا، وكانت أسعار الطاقة قد وصلت إلى ذروتها، ما عزز من اقتصاد روسيا الذي يعتمد إلى حد كبير على صادرات النفط، وهذا مكّنه من التصرف كرجل قوي.

وأكد موتيل أن هذه المعلومات توضح أن ضم بوتين لشبه جزيرة القرم والحرب في شرق أوكرانيا لا علاقة لهما بالمصالح الروسية الثابتة، بل بالأحرى، ناتجة عن رغبة بوتين في استعادة عظمة روسيا مرة أخرى وارتيابه من حلف الناتو والغرب، فضلًا عن محاولته استغلال الثورة الأوكرانية التي أضعفت البلاد، وجعلتها هدفًا سهلًا للتوسع الروسي.

وقال موتيل إنه إذا أراد الغرب تطوير علاقات مستقرة مع الدول غير الروسية المزدهرة والقادرة على مقاومة الهيمنة الروسية وترغب في إشراك موسكو في علاقات ودية متبادلة المنفعة، فسيكون عليها اتباع الخطوات التالية للتعامل مع طموحات بوتين الإمبريالية:

أولًا، لا ينبغي على الغرب تغذية جنون العظمة الروسي بالإشارة إلى أن روسيا تحتاج للهيمنة على جيرانها، ما يمنح مشروعها الإمبراطوري شرعية، فقد أثبت التاريخ أنها لا توجد أهداف ثابتة غير قابلة للتغيير، وجميع الدول الإمبريالية السابقة تفقد نزعتها الأيديولوجية مع مرور الوقت، وهذا ما سيحدث مع روسيا، ما لم يحول صناع السياسة في الغرب دون ذلك.

ثانيًا، يجب على الغرب تجنب تعزيز الروابط الاقتصادية والسياسية والعسكرية بين روسيا ومستعمراتها السابقة.

فبحسب موتيل، لا يلزم قطع هذه العلاقات تمامًا، فمن المنطقي أن تكون لدى الجيران علاقات اقتصادية وثيقة، ولكن لا ينبغي أن تؤدي هذه العلاقات للهيمنة الروسية.

ويمكن للغرب عمومًا والولايات المتحدة بشكل خاص المساعدة في موازنة التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري بين روسيا وجيرانها من خلال تشجيع الدول غير الروسية على الاندماج بشكل أوثق في المؤسسات الأمنية والاقتصادية الأوروبية، وتوفير مساعدة عسكرية دفاعية لتعزيز قدرة الدول الأصغر على مقاومة العدوان، وقبل كل شيء، تشجيع هذه الدول على تنويع مصادر الطاقة ومساعدتهم على تطوير موارد الطاقة الخاصة بهم، والامتناع عن الإجراءات التي تشجع روسيا على احتكار مجال الطاقة، بإقامة مشاريع مثل خط أنابيب "Nord Stream 2" أو "kowtow" مثلما فعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

سيناريو روسي مرتقب

ويحذر موتيل من أنه يجب على الغرب أيضًا أن يستعد لأسوأ سيناريو روسي، وهو تفكك الدولة وربما انهيارها.

ففي عام 1918، تفوقت روسيا في مرحلة ما بعد الإمبراطورية بسهولة على الدول غير الروسية المستقلة حديثًا، وعادت الإمبراطورية للظهور بسرعة وسهولة، ولكن اليوم، رغم أن روسيا لا تزال قوة إقليمية عظمى، إلا أنها تفتقر إلى القوة اللازمة لإعادة تأسيس إمبراطورية حقيقية، إذ يمكنها غزو أجزاء من البلدان أو الدول الصغيرة، مثل إستونيا ولاتفيا، ولكنها لا تستطيع استعادة كازاخستان أو أوزبكستان أو أوكرانيا أو روسيا البيضاء، ومحاولة روسيا إعادة إنشاء إمبراطوريتها يمكن أن يزعزع استقرار بعض جيرانها أو حتى روسيا نفسها.

وأشار موتيل إلى أن بوتين يمتلك طموحات جيوسياسية عظيمة تمتد حتى أفريقيا والشرق الأوسط، ولكن اقتصاده لا يستطيع مواكبة هذه الطموحات، فهو لن يستطيع المحافظة على توسعه الإمبراطوري لفترة طويلة، وقريبًا سيجد نفسه في ورطة شبيهة بالتي وقع فيها "ليونيد بريجنيف"، السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفييتي الأسبق، وسيضطر للانسحاب.

ووصف موتيل بوتين بأنه قد أصبح أسوأ عدو لروسيا، لأنه مصمم على تحويلها إلى إمبراطورية استبدادية، وهو دور لا تستطيع تحمله، على حد وصفه.

Related Stories

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com