معادلة صعبة.. هل أصبح المهرّبون في تونس "دولة داخل الدولة"؟

معادلة صعبة.. هل أصبح المهرّبون في تونس "دولة داخل الدولة"؟

تخطط السلطات التونسية لفتح ملف التهريب الذي أضرّ بالاقتصاد الوطني، وتورطت فيه شخصيات كبيرة، من بينها سياسيون ونواب سابقون في البرلمان، بينما بدأ العد التنازلي لإجراء الانتخابات التشريعية وفق قانون جديد يثير مخاوف من أن يفتح الباب أمامهم للنفوذ بشكل أكبر، بحسب متابعين.

ودعا الرئيس التونسي قيس سعيّد، مرارًا، لوضع حد لظاهرة التهريب، التي تصاعدت خلال الفترة الأخيرة، وباتت تشكل خطرًا يهدد كيان الدولة.

وأكدت مصادر سياسية مطلعة أن الرئيس التونسي يتجه لفتح ملف التهريب المثير للجدل، استباقًا لفتح باب الترشح للانتخابات التشريعية المرتقبة.

وذكرت المصادر لـ"إرم نيوز" أن الرئيس قيس سعيّد يخشى من أن "يتسلل" بعض كبار المهربين ومن يسميهم "اللصوص وناهبي ثروات الشعب" مجددًا إلى المشهد السياسي، تزامنًا مع انطلاق الاستعدادات للانتخابات التشريعية المقبلة.

ويأتي ذلك خوفًا من أن يتكرر السيناريو الذي حصل عبر الانتخابات الماضية خلال حكم حركة النهضة، والذي تمكن خلاله عدد كبير من المشتبه بهم من الوصول إلى البرلمان.

وعاد ملف التهريب للواجهة تزامنًا مع الاستعدادات للانتخابات التشريعية وإعلان القانون الانتخابي المعدّل، والذي نص في فصله 75 جديد على أنه "يتم تمويل الحملة الانتخابية وحملة الاستفتاء بالتمويل الذاتي والتمويل الخاص دون سواهما وفق ما يضبطه هذا القانون".

وتعتبر بعض منظمات المجتمع المدني والأحزاب أن تخلّي الدولة عن تمويل المرشحين من شأنه فتح الباب واسعًا أمام المال السياسي الفاسد الذي يشكل التهريب أحد مصادره الرئيسة.

ويمثل كبار المهربين خلال فترة الانتخابات مصادر تمويل للمرشحين مقابل توفير الحصانة القانونية لهم.

مال فاسد وتمكّن من مفاصل الدولة

وكشف رئيس الرابطة الوطنية للأمن والمواطنة في تونس معز الدبابي، في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن التجربة في الانتخابات السابقة أثبتت أنه تم استعمال المال الفاسد في حملات انتخابية للنواب أو الأحزاب، مؤكدًا أن المتفق عليه أنّ المال الفاسد هو كل ما هو خارج القانون، والذي يكون عبر قنوات تتجسد في غسيل الأموال من الجمعيات أو عن طريق السلطة أو حزب سياسي حاكم.

وأكد الدبابي أن بعض المؤسسات التجارية المقربة من بعض الأحزاب الحاكمة تحظى بمعاملات تجارية خاصة في مجال التهريب، مشيرًا إلى أن المعاملات التجارية الخاصة تتجسد في عدم تطبيق القانون على كبار المهربين.

وبحسب المصدر ذاته، فإنّ المتحكمين في السوق في الظاهر هم تجار عاديون من مناطق معروفة بالتهريب، لكن في الأصل هم واجهة لأطراف سياسية توفر للتجار الحصانة السياسية مستعملة نفوذها في الدولة.

وقال رئيس الرابطة الوطنية للأمن والمواطنة إن شاحنات التهريب لبعض المهربين بعد توقيفها لا تخضع للتفتيش بسبب وجود تدخلات من بعض الأشخاص النافذة تم تعيينها على مستوى الإدارات التابعة لأطراف سياسية على مستوى وزارات مهمة.

وتابع الدبابي، في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز"، أن إحدى العائلات المعروفة في مجال التهريب وعلى علاقة قرابة من شخصية سياسية تابعة لحزب سياسي احتمت تحت جناح حكمه مقابل تمويل الحملات الانتخابية التابعة للحزب.

وأشار الدبابي إلى أنّ حركة النهضة أثناء توليها الحكم قامت بتعيين موالين لها في مفاصل الدولة وفي مؤسسات حكومية مهمة، حتى تضمن استمرارية سيطرتها على  الدولة حتى بعد إبعادها عن السلطة.

واعتبر أن التواطؤ السياسي مع التهريب ليس هدفه التمويل فقط، إنما إفشال سياسة الدولة أيضا، مشيرًا إلى أن تهريب المواد الأساسية هو ضرب للسلطة لإبراز فشلها في إدارة الدولة، بهدف تبييض صورة هذا الطرف السياسي مقابل تشويه منافسه في السلطة.

مهربون يستثمرون سياسيًا في الانتخابات 

وكشف الناشط السياسي ورئيس المجلس المحلي بفرنانة (محافظة القصرين الحدودية) عثمان عجلاني في تصريح لـ "إرم نيوز"، أن التهريب في منطقة فرنانة مرتبط أساسًا بالوضع الاجتماعي والجغرافي والتعليم في المنطقة.

وأوضح عجلاني أنّ الوضع الجغرافي للمنطقة الحدودية مع الجزائر وارتباط العائلات في المنطقتين ساهم بتفشي الظاهرة، إضافة إلى ارتفاع منسوب البطالة وانقطاع التلاميذ عن التعليم والتحاقهم بقطاع التهريب.

وأشار إلى أن تسيب الدولة في فترة زمنية سابقة، وغياب المراقبة على الحدود، ساهما بظهور كبار المهربين الذين اشتغلوا أيضًا في غسيل الأموال، وتهريب الآثار والأسلحة، والمواد المدعمة.

وقال "عجلاني" إن التهريب لديه حاضناته السياسية، وإن ما أسماها "الحيتان الكبيرة" في مجال التهريب لديهم علاقات جيدة مع شخصيات نافذة في الحكم، حيث إن مهربين كانوا ينتمون لحزب حاكم ولديهم شاحنات خاصة تمر في وضح النهار أمام أعين الأمن ولا أحد يستطيع توقيفها أو تفتيشها.

ووفق "عجلاني"، فإنّه خلال فترة الانتخابات يتولى المهربون تمويل الأحزاب، كما أن كبار المهربين في فرنانة قاموا بتمويل الحملات الانتخابية لحركة "النهضة"، لأن علاقات سياسية وموضوعية جمعتهم.

ودعا "عجلاني" للتصدي لظاهرة الانقطاع عن التعليم الذي شجع على التهريب، عبر إيجاد حلول تشجع صغار المستثمرين على الاستثمار في المنطقة، كما أكد ضرورة معاقبة كل من حصل على أموال بطرق غير قانونية وأضر باقتصاد البلاد.

وأكدت البرلمانية السابقة والقيادية في حركة الشعب التونسية ليلى الحداد في تصريح لـ"إرم نيوز" أن المهربين سبق أن ترشحوا لانتخابات مجلس النواب ولم تعد لديهم وساطة بينهم وبين كبار المسؤولين في الدولة، مضيفة أنهم حصلوا على تسهيلات لمرور شاحناتهم دون تفتيش أمني، وحتى بعد توقيفهم يتمتعون بالتسامح في الجرائم المالية على حساب الدولة.

وشددت الحداد على أن المال السياسي مصدره بعض المهربين الذين يتقربون من السياسيين، خاصة أثناء الحملات الانتخابية، حيث يتولون تغطية كلفة الحملات الانتخابية مقابل توفير التغطية القانونية والسياسية لأعمالهم غير المشروعة.

وفي السياق ذاته، كشف الناشط السياسي ناجي الشعباني في منطقة ماجل بلعباس وهي منطقة حدودية مع الجزائر، أن التهريب خلق طبقة اجتماعية للمتنفذين وبعضهم حصل على مناصب سياسية كبرى، مشيرًا إلى أن بعض المسؤولين هم في الأصل مهربون.

وأضاف الشعباني في حديث لـ"إرم نيوز" أن كبار المهربين يجدون أنفسهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يحمون الإرهاب، لأن التهريب يوفر الوسيلة والإمكانيات، والنشاط الإرهابي يوفر الغطاء المالي.

وأشار "الشعباني" إلى أن المهربين استثمروا في السياسة لحماية مصالحهم، وهو ما تجسد في مجلس النواب المنحل، حيث استغلوا علاقاتهم بأجهزة الدولة لاستقطاب الشباب وتشغليهم في مجال التهريب.

 بوابة لكبار المهربين

وكشف الناشط السياسي ناجي الشعباني أن التهريب يعد مصدر الرزق الوحيد لأغلب سكان منطقة ماجل بلعباس، نظرًا لغياب التنمية الاقتصادية، وقربها الجغرافي من الجزائر.

وأضاف "الشعباني" أنه نظرًا لقربه من أبناء المنطقة، وعمله في مجال التعليم، اكتشف أن أغلب صغار المهربين يحملون شهادات جامعية عليا، ويعملون عند كبار المهربين على الحدود، لأنهم لا يجدون مورد رزق لإعالة ذويهم.

وقال "الشعباني" إن المهربين يسلكون سفوح الجبال، ويستعملون تقنيات "الكاشف" على الطرقات، ويضطرون لتغيير المسالك في حال وجود دوريات أمنية، وتكون تحركاتهم ليلًا".

واعتبر "الشعباني" أن غياب الدولة في المنطقة أدّى لفراغ غطاه التهريب والإرهاب، حيث احتضن كبار المهربين الشباب وأدخلوهم مجال التهريب مقابل توفير الحماية لهم، خاصة أن أطرافًا في الدولة متواطئة على ذلك.

وبيّن "الشعباني" أن التهريب في المنطقة لم يعد حكرًا على الشباب فقط بل استقطب التلاميذ والشيوخ الذين يعتمدون على الحمير للاشتغال في التهريب.

وأشار "الشعباني" إلى أنه في منطقة حاسي فريد التي ترتفع فيها نسبة الانقطاع عن التعليم يهجر التلاميذ مقاعد الدراسة للعمل في مجال التهريب، نظرًا لأن المهربين أصبحوا من أعيان البلاد.

وتابع "الشعباني" أن ماجل بلعباس من بين المعتمديات التي ينتشر فيها الفقر، رغم أنها من أكبر المناطق المنتجة للفستق، وهي منطقة مهملة تفتقر حتى لمصارف، ما قتل داخلها الحركة الاقتصادية.

التهريب باب من أبواب المال السياسي في الانتخابات 

وكشف رئيس حزب التحالف من أجل تونس سرحان الناصري في تصريح لـ "إرم نيوز" أن القانون الانتخابي الجديد في أجزاء منه يبدو أكثر صرامة من القانون السابق، من ناحية جمع التزكيات، وتحديد عددها بـ 400 لكل مرشح، إلا أن آليات المراقبة المعتمدة من الهيئة العليا للانتخابات ليست في المستوى المطلوب.

واعتبر "الناصري" أن صعوبة الإجراءات الإدارية لجمع التزكيات تنفّر الوطنيين من الترشح، وتفتح الباب أمام المال الفاسد ومن يريد المتاجرة في حقوق التونسيين، مضيفًا أن أغلب الأحزاب التي أعلنت مقاطعة الانتخابات ستقدّم مرشحين مستقلين، وهو ما يعد احتيالًا سياسيًا على الشعب التونسي.

وأشار "الناصري" إلى أن عدم تحديد سقف التمويل والتخلي عن دعم الدولة للمرشحين سيفتح الباب أمام فئة المهربين، الذين إن لم يترشحوا فإنهم سيزكون أشخاصًا بسطاء لقضاء شؤونهم ومصالحهم من داخل البرلمان، وبذلك يعودون من جديد إلى البرلمان.

كما أكدت رئيسة جمعية "مراقبون" لمراقبة الانتخابات رجاء جبري، في تصريح لـ "إرم نيوز"، أن عملية رصد تمويل الأحزاب خلال الانتخابات أمر صعب، حتى أن محكمة المحاسبات تجد صعوبات في رصدها، بسبب عدم تجاوب الأحزاب معها، وأن ما هو ثابت أنه تم رصد تدفقات مالية كبيرة للأحزاب خلال انتخابات 2019.

وأشارت "جبري" إلى أنه سبق لجمعية "مراقبون" أن نبهت لغياب بعض القوانين والضوابط خلال الانتخابات السابقة، لكن -للأسف- لم يتم أخذ ذلك في الاعتبار وسن القوانين اللازمة.

ونبّه رئيس الرابطة الوطنية للأمن والمواطنة "معز الدبابي" إلى أن التهريب يعد أكبر ممول للسوق السوداء، مؤكدًا أن التدفقات المالية القادمة من السوق السوداء لا يمكن مراقبتها لأن خريطتها غير واضحة.

واعتبر الدبابي في حديث لـ "إرم نيوز" أن ما جاء في القانون الانتخابي الجديد نص على التمويل الذاتي، والإشكال يكمن بأن هناك فئة ستصعد إلى البرلمان لديها نفوذ مادي أو أشخاص لديهم مصالح تهدف لحمايتها، منبهًا إلى أن وجود أحزاب أعلنت مقاطعتها للانتخابات في الظاهر، لكن لديها موالون، وسيضخون الأموال لهم لدعمهم في الانتخابات التشريعية، وهم مرشحون في الظاهر على هيئة مستقلين.

الوجه الآخر للتهريب 

وقال الناطق الرسمي للنقابة الوطنية للحرس الوطني أنيس السعدي، إن هناك تقاطعات ظاهرة بين الإرهابيين والمهربين، لأن الإرهابيين بحاجة دائمة للمهربين الذين يعرفون جيدًا المسالك المخفية البعيدة عن أعين الوحدات الأمنية والعسكرية.

وأضاف السعدي، لـ"إرم نيوز"، أن هناك إرهابيين يتنكرون أحيانًا في هيئة مهربين لتهريب أشخاص وأسلحة، وهو ما يجعل الوحدات الأمنية والعسكرية في حالة يقظة، حيث يتم اتخاذ إجراءات خاصة في التعامل مع المناطق الحدودية.

كما أشار "السعدي" إلى أن التحقيقات أثبتت وجود علاقات بين الإرهابيين والمهربين، خاصة خلال عملية بن قردان (الحدودية مع ليبيا)، حيث تبين أن بعض المهربين تورطوا في إدخال الإرهابيين من ليبيا إلى بن قردان.

وأوضح "السعدي" أن المشكلة الأساسية تكمن بأن التهريب تطور إلى تجارة ممنوعات مثل الأقراص المخدّرة والأسلحة، مشيرًا إلى أنه خلال فترة من الفترات تمّ غض النظر عن المهربين في المناطق الحدودية، نظرًا لغياب البدائل الاقتصادية والتنموية، لذلك كان السكوت من السلطة لضمان السلم الاجتماعي.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com