التخلي التدريجي عن الدولار.. كيف يغير المشهد السياسي العالمي؟

سلاح اقتصادي للدمار الشامل.. وحصن الاقتصاد الأمريكي المنيع.

هو الدولار، الذي حمى اقتصاد الولايات المتحدة عند خفض تصنيفها الائتماني عام 2011، دون أن تعاني تبعات ارتفاع تكاليف الاقتراض في البلاد أو انخفاض قيمة عملتها، وهو في الوقت نفسه سلاح تلوّح به أمريكا مهددة اقتصاد أقوى الدول، على غرار عقوباتها لروسيا بتجميد 630 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي، منذ بداية الأزمة الروسية الأوكرانية، ناسفةً الروبل، دون أن تحرّك جندياً واحداً.

لكن يبدو أنه سلاح ذو حدين، وهو ما كشفته ردة فعل البلدان الأخرى التي سعت إلى تنويع استثماراتها إلى عملات غير الدولار؛ لحماية نفسها من مواجهة مصير روسيا، والتي بدأت بروسيا نفسها عندما هددت بوقف صادرات الغاز إلى الدول التي لا تفتح حسابا في بنك روسي وتدفع بالروبل، ثم محادثات السعودية مع بكين لقبول مبيعات النفط باليوان بدلًا من الدولار.

إضافة إلى توجه أكبر اقتصادات جنوب شرق آسيا لتسوية المدفوعات فيما بينها بعملاتها، متجنبة استخدام الدولار، كتعاملات ماليزيا وسنغافورة مع الصين، ما خفض حصة الدولار من الاحتياطيات الدولية، ليتحول ربعها إلى اليوان الصيني والأرباع الثلاثة الأخرى إلى عملات البلدان الأصغر.

ولم تكن أوروبا استثناءً.. فقد فضحت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عن ضرورة تقليل أوروبا اعتمادها على الدولار الأمريكي في تعاملاتها الخارجية، الميول الأوروبية لتأييد المزاج العالمي برفض استمرار تربع الدولار على عرش التعامل المالي والتجاري الدولي.

تلك ليست المحاولة الأوروبية الأولى للتقليل من شأن الدولار، بل كان قبلها ظهور اليورو كعملة أوروبية موحدة انتزعت نصيباً جيداً من الاحتياطات النقدية والتبادلات التجارية العالمية على حساب الدولار.

زد على ذلك، احتمالية تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها والذي بدوره يضعف الثقة العالمية المتجذرة بالدولار، وبمصداقية الولايات المتحدة كمشرفةٍ على الاقتصاد العالمي، بمؤسساتها القوية الخاضعة لسلطة القانون، خاصةً مع اقتراح بعض المشرعين خيارات أحادية الجانب، يمكن لوزارة الخزانة أن تستخدمها لتجاوز "حد الدين"، كاستغلال ثغرة قانونية لسك عملة بلاتينية بقيمة تريليون دولار لتعويض التزامات وزارة الخزانة، أو الطعن في دستورية حد الدين، وهي خيارات تهدد بتشويه صورة أمريكا كدولةٍ تحترم التزاماتها.

أما الضربة الأقوى للدولار فيتوقع أن يتلقاها من تجمع دول "بريكس" بقيادة البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، والتي يتعاظم نفوذها كقوة جيوسياسية جديدة قادرة على تحدي النظام المالي الذي يقوده الغرب إلى حد كبير، خاصة بعد أن تقدمت أكثر من 20 دولة بطلب الانضمام إلى عضوية البريكس، ما يشي بضجر عالمي من السلوك الاقتصادي الأمريكي، الذي يخدمها وحلفاءها فقط على حساب الجميع، ما أفقد الولايات المتحدة بريقها كزعيم عالمي مسؤول.

وبرز بحث الدول النامية، خاصةً في نصف الكرة الجنوبي، عن مصادر تمويل بديلة لتلك التقليدية، التي تثقل كاهلها بالديون وأهمها بنك التنمية الجديد (NDB) التابع لمجموعة بريكس ومقره شنغهاي، والذي توسع بالفعل ليشمل بنغلاديش ومصر ودولة الإمارات العربية المتحدة كشركاء.

المفاجئ في الأمر، أنه حتى الهند والصين وبرغم الخلافات الجوهرية بينهما، والتي تطورت في مرحلةٍ ما إلى صدام حدودي، تمكنتا من التعاون في دول البريكس والعمل من خلال مؤسساتها مثل NDB.

وبلغة الأرقام، تظهر تقارير تراجع نصيب الدولار من احتياطات النقد الأجنبي لدى البنوك المركزية حول العالم بنسبة 60 في المئة عام 2021، مقابل 70 في المئة عام 2000.

ويرى محللون أنه في ظل الافتقار المفترض إلى البدائل، لا يمكن المبالغة بالقول إن عالم ما بعد الدولار قريب، لكن يمكن الثقة بأن أساساته أصبحت ملموسة.

وهو ما اعترفت به أمريكا على لسان رئيسها السابق دونالد ترامب، الذي حذر من أن الدولار الأمريكي سيفقد مكانته بين العملات العالمية قريبا، مشيرا إلى أن ذلك سيهوي بقوة بالولايات المتحدة ومكانتها بين دول العالم.

فهل سنشهد سهولةً في عودة العملة الصعبة إلى مجرّد أوراق خضراء مطبوعة كما كانت في أربعينيات القرن الماضي، قبل ظهور سيناريو "وهم الدولار" الذي كان يساوي أضعافاً مضاعفة لوزنه ذهباً؟!.

شاهد أيضا

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com