يبعث ذكر مدينة "إرم" التي ورد اسمها في القرآن على حالة من التأمل وتدبر الدروس والمعاني في تبدل الخلق وتحوّل الحضارات من حال إلى حال لاسيّما أنها محاطة بقدر كبير من الاختلافات بين المؤرخين والجغرافيين وعلماء الآثار حين يتعلق الأمر بتساؤلات حائرة من نوعية: كيف كانت هوية المدينة وما هي طبيعتها وكيف اختفت وأين كانت تقع وهل تم العثور على أي آثار أو أطلال تشير إليها؟ بل إنّ هناك من الباحثين من يذهب إلى أنها لم تكن مدينة أصلا بل اسمًا لإحدى القبائل.
وتكاد تُجمع الدراسات التاريخية على أننا بإزاء مدينة ذات خصوصية كبرى حملت سمات وملامح فارقة وغير معتادة تواجدت غالبًا قبل الميلاد بفترة تقدر من 5 إلى 3 آلاف عام ، لكنها اختلفت في تفاصيل تلك الملامح فمنهم من قال إنها ضمت قصورًا ومعابد ضخمة ذات أعمدة عملاقة تعكس نمطًا معماريًا يتميز بالرهبة والمهابة والجلال محاطة بالنخيل والبساتين الرائعة. ومنهم من قال إنّ تميزها كان ينبع من ضخامة أفرادها حيث كان يبلغ طول الواحد منهم ما بين مترين إلى ثلاثة أمتار. وآخرون ذهبوا إلى أن سكان المدينة امتلكوا من أسباب القوة والتقدم ما جعلهم يبطشون بالآخرين ويتجبرون في الأرض ويستولون على ممالكهم ويذلون شعوبهم حتى ظنوا أن لهم الغلبة إلى الأبد.
والاعتقاد الأرجح بين علماء الآثار وباحثي الجيولوجيا أنّ عواصف رملية غير مسبوقة قد تكون طمست المدينة التي كانت تجسد طفرة حضارية غير مسبوقة ذات يوم على مشارف الصحراء، لكن أين كانت تقع تحديدا؟.
الدكتور زاهي حواس، عالم الآثار المصري الشهير، يعترف في أحد مقالاته أنّ قضية "إرم" لا تزال تمثل لغزاً لعلماء الآثار وهناك من يرجّح أنها تقع ضمن بعض المواقع المحيطة بجبال الجزيرة العربية، مشيرا إلى أنه تم العثور على بعض الآثار في جنوب اليمن، عندما كان يعمل خبيراً للجامعة العربية، تتضمن كتابات بلغات قديمة يرجح أنها تعود للأقوام الذين سكنوا تلك المدينة.
واللافت أن الحفائر وسجلات الآثار لا تمنح دليلا حاسما في هذا السياق، فهناك إشارات على أنّ موقع المدينة قد يكون الأردن بحسب ما قام به أحد المستكشفين الأجانب عام 1932 من حفريات في موضع جبل "رم"، يقع على مسافة 25 ميلا إلى الشرق من العقبة، ووجد في جانب الجبل كتابات ونقوشا قديمة تشير إلى أنه ربما كان هذا هو موضع " إرم" وتغير الاسم مع الوقت.
واكتسبت محاولات فك شيفرة المدينة الغامضة المجهولة بُعدًا عالميًا حين اكتشفت بعثة أمريكية من وكالة "ناسا" العديد من المجاري المائية الجافة مطمورة تحت الرمال ما بين اليمن وعُمان وتحديدا في موقع يسمى "شيصار" ويعود تاريخها إلى ما يقرب من خمسة آلاف عام قبل الميلاد. وبعد دراسات وأبحاث مستفيضة، أصبح من المرجّح أن تكون تلك المجاري وما تم العثور عليه من أطلال معابد وقلاع وأعمدة نواة لمدينة "إرم".
وقالت مجلة "تايم" الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ 17 ديسمبر/ كانون الأول 1992 أنه "تم اكتشاف قلعة من ثمانية أضلاع سميكة الجدران بأبراج في زواياها مقامة على أعمدة ضخمة يصل ارتفاعها إلى 9 أمتار وقطرها إلى 3 أمتار ربما تكون هي التي ورد ذكرها في القرآن".