"بوتيتو".. فيلم مصري يجسد لوحة فان غوخ الشهيرة

"بوتيتو".. فيلم مصري يجسد لوحة فان غوخ الشهيرة

يقدم المخرج المصري محمد البدري تجسيداً لأثر الفقر المادي على الحياة، مناقشاً خطورة استمراره على الفضيلة، في فيلمه القصير "بوتيتو"، الفائز بجائزة مهرجان البحرين السينمائي 2022.

والفيلم مقتبس بكامل تكوينه من لوحة الفنان الهولندي الشهير فينيست فان غوخ (1853-1890) "آكلوا البطاطا"، والتي جسد من خلالها حياة الفلاحين المهمشين في الأرياف الهولندية وقتها، وخلدت اللوحة فيما بعد في أعرق المتاحف في هولندا. 

وتدور أحداث الفيلم حول قدرة الفضيلة على الاستمرار في ظل الفقر والظروف القاسية لمجتمع من الكادحين المنهكين، حيث تعيش عائلتان في بيت صغير شديد الاهتراء أشبه بمقبرة، وتظهر على وجوههم علامات الفقر الواضحة، حيث العظام البارزة، والوجوه المرهقة القلقة، والألوان الداكنة التي يحملونها.

وتجتمع العائلتان بشكل يومي على الطاولة الوحيدة في المنزل، ويأكلون نفس الأكلة، وهي ثمار "البطاطا" إلى جانب فناجين الشاي.

وتتكون العائلة الأولى من رجل وامرأة وابنتهما الصغيرة، والعائلة الثانية من رجل وامرأة فقط، وهؤلاء الخمسة أفراد يجتمعون تحت سقف منخفض، معلق في منتصفه مصباح زيتي، يعطيهم الإضاءة الخافتة.

مقبرة

ويستطيع المخرج المصري الشاب محمد البدري، نقل تفاصيل اللوحة الشهيرة من خلال التركيب والألوان والشخصيات والإضاءة، إذ تتركب مشاهد الفيلم من بيت كالح أقرب لشكل المقبرة، حيث تغلب على جدرانه الألوان الترابية الباهتة والداكنة، ويدنو سقفه من رؤوس ساكنيه، بما يوحي بلحظة سقوط متوقعة. 

ويتواجد في سقف المكان المريب، مصباح زيتي، يعطي إضاءة خافتة متأرجحة، تتوزع على وجوه الشخصيات بشكل يعطي أثر التوتر والقلق، فتنعكس الإضاءة على الوجوه بشكل متردد لا ثبات فيه كنتيجة لاهتزاز إضاءة المصباح الزيتي، لربما لإبراز معنى القلق على الوجوه، وعدم استقرار الحياة.

عظام بارزة

يجسد المخرج كم المعاناة والبؤس في وجوهها بشكل لافت، حيث العظام البارزة في الوجه، كناية عن الأكل السيئ، والفقر المدقع، كما ويحيط أعينهم الشحوب والقلق، ليعطي للمشاهد انطباع الآلام التي يكتنزونها وعدم راحة البال.

وقد نجحت الماكيير لمياء محمود في إبراز هذا الجانب. كما وتظهر أجساد الشخصيات النحيلة مرتدية الملابس الكالحة المهترئة، والقبعات التي تخفي تحتها صوت الفقر المدقع في المكان.

ومثل في الفيلم كل من لبنى ونس، كريم عبدالعليم، سارة هشام، يمنى النجار، ومختار رجب.

ألوان ترابية

وينجح محمد البدري في رسم مشاهد أقرب ما تكون لألوان اللوحة الترابية التي استخدمها فان غوخ، حيث استخدم ألواناً ترابية متدرجة ما بين الرمادي، والبني المتدرج، والأصفر المتدرج، والأخضر، وهي كشكل نهائي للكادر، تعبر عن البؤس وغياب الرفاهية من الحياة.

وأضاف المخرج في خلفية المشهد اللون الأزرق الذي يطل بخطوطه العريضة من النافذة، والأزرق هنا يعبر عن الحزن المحيط بالشخصيات، واقتراب عقولهم من الجنون. 

اشتعال مرتقب

أما موسيقى الفيلم ومؤثراته الصوتية، فكانت عبارة عن خلفية مستفزة للقلق مع تفاصيل المكان، حيث بدأت بطبيعة هادئة عبر عزف لآلة البيانو، يصاحبها صوت عواصف رعدية وشتاء خارج المنزل، وهي توليفة تزيد من أثر الحوار بين الشخصيات وتنبئ عن اشتعال قادم.

وكانت نهاية الفيلم مصحوبة بتصاعد في وتيرة الموسيقى الأوبرالية مع الآهات البشرية، بما يخبر ببدء نوع آخر من المآسي في هذا المجتمع، وقد قدم تلك الموسيقى محمد الشبراوي. 

ندم

وفيما يخبر الحوار بين الشخصيات عن ندم شديد على عمر يمضي دون أي أفق، وسخرية من الواقع ونوعية الأكل الذي يضطرون إليه كل يوم وهي طبق البطاطا. فتسخر أحلام من استغراب زوجها تقديمها البطاطا، وتجيبه: "لم أمنع عنك الخاروف"، وتبدو غاضبة من استمرار حياتها على هذه الشاكلة. 

ويبدأ الفيلم من مستقبل الشخصيات، حيث تبدو الطفلة الشاحبة الوجه، في حالة حسرة وتذمر؛ لعدم قدرتها على استكمال تعليمها كما بقية الأطفال، كما يبدو الأب متحسرا لعدم قدرته تلبية رغبته ورغبة ابنته بإكمالها التعليم، وهنا يريد المخرج أن يثير نظرة مستقبلية مظلمة لواقع حال العائلة. 

زوال الفضيلة 

وتظهر علامات اقتراب زوال الفضيلة منذ البداية، فالأم تشعر بعدم حب الابنة لها كما الأب، ويظهر ذلك من خلال الحركات والحوار بأن الأب والأم يخبئان شيئاً من الخوف الداخلي، وكأن نية سيئة يكمرها كل منهما للآخر.

وتُبرز الملامح والعيون تفاصيل غياب الأمان على حياة كل منهما، فيذهب الزوج لإعادة طهي طبق البطاطا، لالتفاته للون غريب مختلف عن المعتاد على سطح البطاطا غير المقشرة، كناية عن القلق من زوجته. 

وفي نفس المنزل هنالك "زهرة" الزوجة التي تعزم على الاستقواء لنيل حياة أفضل، ولا يهمها كيف تكون الوسيلة، وفي إبريق الشاي الذي تحمله، يبدو هنالك سر غامض يريد المخرج من خلاله أن يزيد من التشويق الدرامي نحوه. 

قلق

أما حبكة الفيلم القصير الذي جاء في 10 دقائق، فتبدو واضحة في القلق النابع من عيون الشخصيات، وما تكمره لبعضها البعض، فلا أمان في عيونهم ولا في قلوبهم، ليتمكنوا من منحه للآخرين، ففي المنزل يدور صراع كبير على لقمة العيش، أو البقاء، وكراهية كبيرة للواقع، بما يوحي أن الفضيلة مهددة في هذا المجتمع المنسي. 

ولعل النزيف من فم الطفلة الصغيرة في نهاية الفيلم، يلمح إلى مدى القسوة التي حملها الجميع في قلوبهم، وإلى تحجر يركن في الداخل، بما يشعر بانتهاء عصر الود في ظل مجتمع يعيش في مقبرة تذكرهم بالموت وحتميته كل دقيقة.

إضافات

إن إضافات البدري الفكرية عبر السيناريو والإخراج، عما كان في لوحة فينسيت فان غوخ، تجسدت في دراسة الفقر كحالة دائمة، وأثر ذلك على استمرار الفضيلة في أي مجتمع، وبدت الطفلة في لوح غوخ مخفية الوجه، دوناً عن باقي الشخصيات.

لكن في الفيلم كشف عنها محمد البدري، ليظهر من خلالها المستقبل المأساوي النازف لهذا المجتمع الصغير، ووجود خطر على الفضيلة،  لكنه لو أبقى على تغطية وجهها، لربما انساق المعنى الدرامي لمنطقة أكثر إيحائية، من جانب الغموض وعدم انكشاف الصورة كاملة أمام الجمهور. 

الأكثر قراءة

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com