بعد مرور ما يقرب من ألف عام، عادت طائفة "الحشاشين" بزعامة " حسن الصباح" من مرقدها التاريخي، لتثير الجدل وتشغل الناس على وقع المسلسل الذي يحمل نفس الاسم، ويلعب بطولته النجم كريم عبد العزيز.
وما بين التحليل العلمي الهادئ والهجوم الحاد، تلقّى صناع العمل انتقادات واسعة، وأسهب الباحثون والمختصون في تبيان "الأخطاء التاريخية الفادحة" التي انطوى عليه المسلسل، لكن المأزق الذي يواجهه من يسعى لرصد حقيقة الحضور التاريخي لهكذا طائفة هو أن المؤرخين أنفسهم أوردوا روايات كثيرة في هذا السياق يتسم معظمها بالتضارب والتناقض.
وإذا كانت الاختلافات سمة عامة في الروايات التاريخية إلا أنها تتحول أحيانا في قصتنا هنا إلى تناقضات صارخة تبعث على الحيرة، ولا سيّما أن الكلام ينصب على "طائفة سرية باطنية" تخلط الدين بالسياسة.
وبينما يرى بعضهم أن تلك الطائفة انتهجت نهجا دمويًّا عنيفا في تحقيق أهدافها وهو ما يعرف اليوم بـ " الإرهاب"، يضعها البعض الآخر في خانة أصحاب الفكر ممن قاوموا استبداد السلطة المحلية من عباسيين وسلاجقة، وتصدوا للغزاة من صليبيين وتتار.
لنبدأ بالمعلومات الشحيحة التي تلقى إجماعا أو شبه إجماع بين الباحثين، ومنها أن حسن الصباح ولد في القرن الحادي عشرالميلادي وتحديدا عام 1037م في بلاد فارس، لكنهم اختلفوا في تحديد مسقط رأسه، وإذا ما كان مدينة " الري" أم " قم". لكن المؤكد أنه نشأ وتربى على مذهب "الإثني عشرية"، ثم دان بالولاء وعمره 17 عاما لمذهب " الإسماعيلية النزارية" الذي أخذ يدعو له لاحقا.
سبب التسمية
و يتفق الباحثون أيضا على أن صفة " الباطنية" التي لحقت بتلك الطائفة تعود لقولهم إن "لظواهر القرآن والأخبار (بواطن) تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معيّنة"، على حد تعبيرهم.
ويبدو المسلسل، حتى الآن، أقرب إلى المفهوم الشائع في سبب تسمية الطائفة بـ "الحشاشين" وهو أن زعيمهم كان يقدم إلى أتباعه مخدر "الحشيش" حتى يتحلوا بالشجاعة عندما يقدمون على تنفيذ اغتيالات دموية، إلا أن د.محمد عثمان الخشت، الذي أصبح فيما بعد رئيس جامعة القاهرة، يرفض هذا الطرح في كتابه "حركة الحشاشين - تاريخ عقائد أخطر فرقة سرية في العالم الإسلامي".
يؤكد الخشت أنه ثبت لديه بالدليل القاطع أن الحركة بريئة تماماً من تناول الحشيش المخدر، وأن السبب الواقعي لتسميتها بهذا الاسم، كما حقق، يرجع إلى مواقف الصمود، حيث كانت تقف في مواجهة ضروب الحصار التي كانت تفرضها عليها الجيوش لمدد طويلة، فكان يصمد الرجال في قلاعهم حتى بعد نفاد المؤن والأطعمة، معتمدين في طعامهم فقط على أكل الحشائش، أي العشب أو الكلأ.
ويضيف الباحث التاريخي محمد غنيمة صاحب المؤلفات التاريخية اللافتة، مثل: "عروش تتهاوى"، و" ذاكرة النخبة - أوراق ومراسلات نادرة من التاريخ الحديث" في حديثه إلى "إرم نيوز"، أن ثمة فرضية محتملة ثالثة وهى أن التسمية جاءت من "حش الرأس"، أي قطعها تماما كطريقة دموية في تصفية الخصم وتنفيذ الاغتيال.
قتلة محترفون
ويشير غنيمة إلى أن الكلمة الشهيرة Assassin التي دخلت معظم اللغات الأوروبية بمعنى " قاتل محترف يقتل خلسة أو غدرا وتكون ضحيته شخصية عامة غالبا" مأخوذة بتعديل طفيف من كلمة "حشاشين"، بعد تحول الطائفة إلى فرقة اغتيالات يقوم بها من كانوا يسمون بـ " الفدائيين" الذين "لا يأبهون بالموت في سبيل تحقيق هدفهم ويُلقون الرعب في قلوب الحكام والأمراء المعادين لهم".
وأضاف غنيمة أنهم تمكنوا بالفعل من اغتيال العديد من الشخصيات المرموقة في ذلك الوقت، منهم أمير مملكة القدس اللاتينية "كونراد أوف منتفيرات"، والوزير نظام الملك، والخليفة العباسي المسترشد.
ويبدو أن الحملات الصليبية على الشرق العربي كانت مدخلا لنقل كلمة الحشاشين إلى اللغات الغربية بهذا المعنى الصادم، حيث أورد المؤرخ البريطاني برنارد لويس في كتابه "الحشاشون- فرقة ثورية في تاريخ الإسلام "، رسالة ألماني يدعى برو كاردوس موجهة إلى الملك فيليب السادس ملك فرنسا، خلال تخطيطه لتلك الحملات الصليبية.
وجاء في الرسالة: "الحشاشون يبيعون أنفسهم ويتعطشون للدماء البشرية ويقتلون الأبرياء مقابل أجر، هم قتلة مأجورون سريون من نوع خطر وذوو مهارة خاصة".
و يوضح محمد غنيمة أن حسن الصباح ربما كان له وجه آخر يتعلق بالعلم والمعارف، وهو ما أشار له المؤرخ الفارسي علاء الدين الجويني من أن الصباح قال ذات مرة متحدثا عن حياته: "منذ طفولتي، بل منذ السابعة من عمري، كان جُل اهتمامي تلقي العلوم والمعارف، والتزود بكل ما استطعته منها في سبيل توسيع مداركي".
صداقة غامضة
وتبنى مسلسل "الحشاشين" رواية تاريخية أخرى شائعة تقول بوجود صداقة منذ الصغر بين كل من حسن الصباح ( يجسد دوره كريم عبد العزيز)، والشاعر والفيلسوف عمر الخيام " نيقولا معوض"، ونظام الملك " فتحي عبد الوهاب"، وكيف "أقسموا وهم صغار يطلبون العلم أن يقتسموا جميعاً ما عسى أن يواتي أي أحد منهم من حظ طيب"، وكان أولهم وصولاً هو نظام الملك.
وبعدما أصبح وزيراً للدولة السلجوقية، طالبه زميلاه بالوفاء بالعهد، فعرض على كل منهما تولي إحدى الولايات، ولكن كلاهما رفض لسبب مختلف، فعمر الخيام كان يريد الحصول على راتب سنوي يمكنه من حياة الشعر والفكر والتأمل، بعيداً عن مسؤوليات الحكم وهمومه، وحسن الصباح كان يتطلع إلى منصب في بلاط الحكم، أملاً في الوصول لمنصب وزير.
ويؤكد الدكتور الخشت أن هذه الرواية "يشوبها البطلان"؛ بسبب أدلة عدة يسوقها التحليل التاريخي، فمن المستبعد أن يكون حسن الصباح صديق دراسة لنظام الملك، فالأخير ولد قبل الأول بحوالي 20 عاماً، فضلاً على أن المصادر التاريخية تنص على أن زعيم الحشاشين تلقى تعليمه بمدينة "الري"، وليس "نيسابور" التي تعلم بها وزير الدولة السلجوقية.
ويشير الخشت: "أننا نجد في المقابل تاريخ مولد عمر الخيام مجهولا؛ ما يجعل من الصعب استبعاد صداقته بحسن الصباح تحديداً، خاصة وأن تاريخ وفاتهما متقارب ولا يفصل بينهما سوى 3 سنوات، كما أن توجههما العلمي واحد، فكلاهما درس الرياضيات، والفلك، وعلوم الدين، والفلسفة".
ويوضح كتاب "حركة الحشاشين" أن "نظام الملك" أو أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، أصبح العدو الأول والخصم اللدود لحسن الصباح، وله مؤلف شهير في النثر الفارسي هو "سياسة ناما" أي "كتاب فن الحكم"، ويوصي فيه الشعب والملك التمسك بأصول الدين، وحارب حركة الحشاشين حرباً لا هوادة فيها؛ لأنه كان يرى أنها تهدد وحدة الدولة. وانتهى الأمر باغتياله وفق مخطط شديد الدهاء أشرف عليه "الصباح" نفسه.
قلعة عش النسر
وجد حسن الصباح ضالته في قلعة "آلموت" في بلاد فارس التي اتخذ منها حصنا منيعا وأقام فيها أكثر من 30 عاما يدير منها عملياته ويطلق أتباعه في كل مكان، إلا أن الخلاف يعود ليطل بوجهه بين المؤرخين حول أصل تلك القلعة الشهيرة، ومن بناها، وكيف بالضبط استولى "الصباح" عليها.
وتُجمع الروايات المختلفة على أن القلعة كانت حصناً قديماً فوق صخرة عالية في منطقة وعرة وسط الجبال على ارتفاع يبلغ حوالي 6 آلاف متر في هضبة الديلم، شمال إيران، وبُنيت بطريقة شديدة الإحكام، فليس لها إلا طريق واحد فقط للوصول إليها، ما يصعّب على الغزاة اقتحامها.
ولم يعرف على وجه الدقة أول من بنى هذه القلعة، ويقال إنه أحد ملوك الديلم القدماء وأسماها "ألوه أموت"، ومعناها "عش النسر"، ثم جددها أحد حكام المنطقة المحليين سنة 860، واستولى حسن الصباح عليها لاحقا.
وتأثرت الصورة الذهنية حول حسن الصباح برواية متداولة للمستكشف الإيطالي الشهير ماركو بولو عن قلعة "آلموت"، كتبها سنة 1272، يقول فيها إن الصباح الذي يشير إليه بلقب "شيخ الجبل" قد عزل واديًا بين جبلين ثم حوله إلى حديقة غناء، وزرع فيها كل أنواع الفاكهة، وشق فيها أنهارًا، وأتى بنساء فاتنات، يقمن بخدمة من بالحديقة والتسرية عنهم، حيث يتقن عزف الموسيقى، ويغنين بأصوات رائعة.
وكان يريد من وراء ذلك، بأن يقنع أنصاره بأن هذه هي الفردوس الحقيقية، وكان الصباح يأمر بإعطاء نوع من الشراب لعشرة من الشبان، وإذا صرعهم النوم، أمر بحملهم إلى القصر، فإذا استيقظوا صُعقوا من البهجة، والمناظر والحياة الرغيدة مع الجميلات، وأنواع الأكل واللحم والشراب، ثم يخرجهم بعد مدة، ويقول لهم إنهم كانوا في الفردوس وإن أرادوا الرجوع إليه، عليهم طاعته طاعة عمياء، فيوافقون.
ويشكك باحثون في رواية ماركو بولو، مؤكدين أنها رواية "سماعية"؛ حيث لم يرَ ذلك بعينيه وإنما نقله عن آخرين نقلوه بدورهم عن آخرين، كما أنه تعمد المبالغة وتضخيم الأمور حتى يضمن الاهتمام بما يقول في الدوائر الأوروبية.