غارتان على منطقة الشويفات بالضاحية الجنوبية لبيروت
تزخر مدينة فاس المغربية بإرث تاريخي عريق، فهي حاضرة بقوة في كتب التاريخ الإسلامي، وعاصمة المملكة العملية والثقافية والروحية منذ أكثر من 12 قرنًا.
وتشهد معالم فاس وأسوارها التاريخية والتي تقع في أقصى شمال شرق المغرب على مكانتها على امتداد قرون، وذلك منذ تأسيس "دولة الأدارسة".
ومدينة فاس، هي متحف أثري مفتوح في وجه العموم، ومن يزور دروبها التاريخية تطل عليه منازل عتيقة يطلق عليها "الرياض"، ومدارس ومحلات مزينة بنقوش فنية على الخشب والجبس تسر الناظرين، كل هذه العناصر وأخرى تغوص بالزائر في أجواء من الزمن الجميل.
ويعود تاريخ تأسيس مدينة فاس إلى عام 789م من قبل إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الذي فرّ من العباسيين، وبفضل ثقلها التاريخي صنفتها منظمة اليونسكو، عام 1981، ضمن قائمة التراث العالمي.
ومُنذ تأسيس هذه المدينة الضاربة في التاريخ، اتخذها الملوك والسلاطين عاصمة لهم وبقيت كذلك حتى بداية القرن العشرين، كما كانت قبلة للعلماء والمفكرين والأولياء الصالحين.
أرض التعايش
عندما يجوب المرء أزقة فاس الملتوية يكتشف أن هذه المدينة بمساجدها وكنسها هي مرآة تعايش حقيقي بين المسلمين واليهود في المغرب.
في تصريحات سابقة، قال أبراهام الصباغ، حاخام مدينة فاس، إن "اليهود والمسلمين في المدينة كانت تجمعهم علاقات استثنائية، يطبعها التعايش والسلام".
وبحسب مصادر تاريخية، وَفِد إلى فاس أهل القيروان من تونس واستوطنوا الجزء الشرقي منها فسمي بـ"عدوة القرويين"، ووفد إليها أيضاً أهل الأندلس واستوطنوا الجزء الغربي فسمي "عدوة الأندلس".
أقدم جامعة في العالم
تحتضن مدينة فاس، بين دروبها العتيقة جامع القرويين، فهو ليس مسجداً فقط لأداء الصلوات والتعبد، ولكنه أول جامعة علمية في التاريخ، ويتسع المسجد، المزدان بالنقوش والزخارف، إلى ما يصل إلى 20 ألف مصلٍّ.
وتأسست الجامعة - القلب العلمي النابض للمغرب - عام 859م، وصنفتها اليونسكو وموسوعة "غينيس" للأرقام القياسية كأقدم جامعة لم تتوقف عن نشر العلم والمعرفة منذ تأسيسها وحتى الآن، كما أنها أول مؤسسة تعليمية تمنح درجات علمية في العالم.
والجامعة، أسستها "فاطمة بنت محمد" الفهرية القرشية المعروفة بـ"أم البنين"، وهي سليلة "عقبة بن نافع الفهري" فاتح تونس ومؤسس القيروان، حيث جعلت من هذا الفضاء التاريخي مكاناً للتعبد، ومرتعاً للعلم والعلماء.
وذاع صيت جامعة القرويين في كل أنحاء العالم خاصة الإسلامي، فنافس جامع "الزيتونة" و"الأزهر الشريف" في تكوين المفكرين والدعاة.
وتتلمذ داخل جامع القرويين فلاسفة وعلماء من العرب واليهود والمسيحيين، منهم "سلفستر الثاني"، الذي شغل منصب البابا فيما بعد (999-1003)، ويقال إنه أول من نقل الأعداد العربية إلى أوروبا.
كما درس في القرويين "ابن خلدون" و"لسان الدين بن الخطيب"، و"ابن العربي"، وزارها "الشريف الإدريسي"، و"ابن زهر"، وبفضل هذه المعلمة الدينية أخذت فاس لقب "العاصمة العلمية" للمملكة.
وقال المؤرخ المغربي الراحل عبد الهادي التازي عن جامع القرويين: "هذا المسجد الذي يعتبره الباحثون في التاريخ المغربي أنه ليس فقط مسجداً لأداء الصلوات، ولكنه جامعة علمية، لو لم يمنّ الله بها على أهل المغرب لكان ربما يدين بدين غير الإسلام، ويتكلم بلغة غير لغة القرآن".
مدينة بمواصفات استثنائية
تنقسم مدينة فاس إلى ثلاثة أقسام: "فاس البالي" (القديم) وهي المدينة القديمة بُنيت في القرن الثامن الميلادي، و"فاس الجديد" وقد بنيت في القرن 13 ميلادي، و"المدينة الحديثة" التي تم إحداثها إبان فترة الاستعمار الفرنسي.
المدينة العتيقة بفاس مُصنفة برمتها ضمن الإرث الإنساني العالمي من طرف "اليونسكو"، فأسواقها وحواريها ظلت على حالها دون أي تغيير، شاهدة على عظمة هذه المدينة ورقيها منذ قرون.
وتشتهر مدينة فاس بمعالمها الدينية ومدارسها ومتاحفها التاريخية، وتجذب أعدادًا كبيرة من السياح كل عام لزيارة هذه الفضاءات ذات العبق الصوفي.
وتتنوع المعالم والآثار في المدينة، منها متحف "دار البطحاء" الذي بُني بأمر من السلطان مولاي عبد العزيز سنة 1897، و"مدرسة العطارين" وهي بمثابة تحفة فنية أنشأها المرينيون في الفترة الممتدة ما بين سنة 1323 و1325، و"المدرسة البوعنانية" التي أسسها السلطان أبو عنان المريني ما بين 1350-1355، ويشكل المبنى مدرسة ومسجدًا جامعًا في نفس الوقت.
بالإضافة إلى ذلك توجد "الزاوية التيجانية" (مركز عريق تاريخي للتعبد ونشر تعاليم الإسلام السمح)، و"دار الدباغ شوارة"، والتي بنيت في القرن 11 وهي أكبر دار للدبغ في المدينة، و"ساحة الصفارين"، ناهيك عن أسوار وأبواب المدينة الشاهدة على العديد من الحقب التاريخية للمملكة.
وتزخر جدران المساجد والكتاتيب القرآنية والزوايا والأضرحة في أنحاء المدينة العتيقة بالنقوش والزخارف التي تشد الانتباه.
وتعد المدينة العتيقة لفاس واحدة من أكبر المناطق التي لا يُسمح فيها بدخول السيارات في العالم، إذ يتم الاعتماد بشكل كلي على الحمير والبغال والعربات اليدوية في نقل البضائع عبر أزقتها الضيقة.
وشكلت مدينة فاس منذ القدم مركزا تجاريا هاما في شمال أفريقيا، وملتقى الطرق التجارية، إذ اشتهرت بإنتاج الجلود ودباغتها، والنقش على الخشب، وصناعة الزليج، وكانت ولا زالت الصناعة التقليدية مصدر انتعاش المدينة اقتصاديا.
وتنظم مدينة فاس بشكل سنوي "مهرجان الموسيقى الروحية"، والذي يعتبر أحد أهم مهرجانات الموسيقى الروحية على النطاق العالمي، وبسبب المهرجان اكتسبت المدينة شهرة واسعة كمدينة للصداقة والتعايش.