عباس بن فرناس..عبقري الطيران وحكيم الأندلس

امتلك من الشغف والخيال الجامح وجسارة المبادرة ما يكفي لكي ينطلق بزي مكسو بالريش ومزود بجناحين من فوق سطوح قصر "الرصافة" في قرطبة قبل أكثر من 1200 عام، وهو في الستين من العمر. طار بشكل جيد لبعض الوقت ثم سقط أرضا وتكسرت أضلاعه لكن لا بأس، فقد تعافى لاحقا، والأهم أنه أهدى البشرية درسا ثمينا في تحويل الأحلام المستحيلة إلى واقع مشيد على حقائق العلم ومدعوم بروح المغامرة.

واعترف الغرب بريادته في فن الطيران رغم أنه ليس أول إنسان يحاول الطيران بنفسه، لكنه كان المثال الأكثر وضوحا واكتمالا في هذا السياق. أطلقوا اسمه على إحدى فوهات القمر، لكن الحاسدين وأعداء النجاح في كل مكان وزمان طاردوه بالشائعات المجانية الجاهزة مثل الزندقة وممارسة السحر الأسود، فحوكم بتهمة الشعوذة.

وأظهر نبوغا خاصا واهتماما واسعا بعلوم الطب، والصيدلة، والرياضيات، والكيمياء، كما برع في فنون الشعر، واللغة، والموسيقى، حتى أطلقوا عليه اسم "حكيم الأندلس".

تعود جذور "أبو القاسم عباس بن فرناس بن التاكرني" إلى الأمازيغ في بلاد المغرب العربي، لكنه ولد في "تاكرنا"، مدينة روندا في جنوب إسبانيا حاليًّا، في الأندلس، في زمن حكم الأمويين عام 810 م، وتوفي في قرطبة سنة 887 م، حيث تم تخليد ذكراه بإطلاق اسمه على جسر شهير هناك.

براعته الشديدة في الفلك جعلت الأمير عبد الرحمن بن الحكم يتخذه من خاصته من العلماء، ولا سيما بعد أن ابتكر قبة سماوية تشبه ما نعرفه اليوم بـ " سينما البلانتريوم"، حيث جعل سقف معمله يتضمن محاكاة مذهلة لما يحدث في السماء من صواعق وبرق، وما يتحرك فيها من نجوم وكواكب وأجرام، في مشهد تخيلي غير مسبوق.

وتطول قائمة الاختراعات التي شكلت الأساس العلمي لبعض التقدم الأوروبي فيما بعد وكان له السبق فيها مثل تطوير طريقة لتصنيع الزجاج الشفاف من الحجارة، وتقطيع أحجار الكريستال التي تستخدم في صناعة العدسات الطبية التي كان أول من ابتكرها. وكذلك بعض أنواع بندول الإيقاع كالتي تستخدم في الساعات، كما طور الساعة المائية.

وعلى يديه انتقل عصر التدوين من الريشة إلى قلم الحبر، عندما قام بتصميم أسطوانة متصلة بحاوية صغيرة يتدفق عبرها الحبر إلى نهاية الأسطوانة المتصلة بحافة مدببة للكتابة. وكذلك صنع وطور بعض الآلات الهندسية كالمنقلة.

وجرت عليه ريادته في الطيران سخرية البعض واستهزاءهم حتى أن بعضهم قال إنه مات بسبب تلك المحاولة، أما البعض الآخر فأشاع أنها كانت مغامرة مجنونة لرجل ساذج، لكن الحق أنها كانت مغامرة محسوبة عبر دراسة قوانين الفيزياء، وحركة الطير، وسرعة الرياح، وعلاقة ذلك بالأوزان الطائرة. ولم يكتمل نجاح المحاولة؛ لأنه أغفل أهمية الذيل وركز اهتمامه فقط على الجناحين.

وبسبب ابتكاراته واختراعاته؛ وشى به الجهلاء وقالوا إنه يمارس السحر، واقتادوه إلى القاضي الذي وجه إليه رسميا تهمة الشعوذة.

ودافع "ابن فرناس"، عن نفسه قائلا: "لو أتيت بالطحين ووضعته بالماء وعجنته، ليكون منه العجين، ووضعته على النار في التنور ليصبح خبزًا، وهو مختلف الحال، أيكون ذلك مُحَرّماً أم لنفع الناس؟"، فقالوا: لنفع الناس. فقال: "هذا ما أصنعه لأستخرج ما ينفع الناس"، فحكم القاضي ببراءته.

ولاحقته تهم مشابهة مرات أخرى، وفي كل مرة كان يحصل على البراءة، غير أنه ذات مرة تعرض للضرب حتى أغمي عليه.