"اليونسكو" تكافئ العود السوري.. عندما تنتصر الموسيقى على الحرب

"اليونسكو" تكافئ العود السوري.. عندما تنتصر الموسيقى على الحرب

تنتشر صناعة العود في الكثير من الدول العربية، غير أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) اختارت العود السوري، دون غيره، وأدرجته على قائمتها للتراث الثقافي غير المادي، لتميّزه بصوته الفريد ومنحنياته المصنوعة يدويا بدقة.

ولا يمكن قراءة هذا الخبر إلا من زاوية كونه خطوة رمزية تمثل انتصارا لنغمات الموسيقى على دوي المدافع في بلد مزقته الحرب.

يمكن للعود المصنوع بعناية وحرفية أن يبقى لسبعين عاما دون صيانة، وهو ما يدلل على أهمية إتقان هذه الصنعة.

ويشتهر العود السوري، الذي كانت محلات صناعته تنتشر في دمشق قبل أن تدفع الحرب أصحابها إلى هجرة هذه المهنة المتوارثة، بنغماته النقية وأصواته الفريدة والمتناسقة.

ويرجع تاريخ هذه الحرفة، في شكلها التقليدي الحالي، إلى العام 1897 مع عبدو النحات أشهر صانعي العود السوريين، وفي بداية القرن العشرين كانت دمشق تضم عددا كبيرا من عازفات العود النساء، كنّ يعزفن عليه في الأفراح وفي المناسبات النسائية.

لكن صناعة الآلات الموسيقية، عموما، في المنطقة الجغرافية (سوريا حاليا)، تعود إلى زمن بعيد؛ إذ عثر الباحثون خلال القرن العشرين على مجموعة من السجلات تشير إلى احتراف صناعة الآلات الموسيقية بدويلة "ماري" التي تعود إلى العصر البرونزي والتي كانت تقع على ضفاف الفرات شرقي سوريا الحالية (العصر البرونزي هو فترة تاريخية تمتد من حوالي 3300 قبل الميلاد إلى 1200 قبل الميلاد).

صدى نغمة العود

يظهر المؤرخ والقاضي والأديب ابن خلكان ( 1211 - 1282م)، الذي يعد من أعلام مدينة دمشق، في كتابه "وفيات الأعيان" مقدار الاحترام الذي حظيت به الموسيقى في التقاليد العربية القديمة. وكانت لآلة العود، بصورة خاصة، سحر بليغ لدى العرب، ومنزلة رفيعة لم تبلغها الآلات الموسيقية الأخرى.

يجتهد صناع العود في تزيين الزند وأجزاء أخرى من الآلة بزخارف ونقوش وموزاييك من الصدف والعاج ذات أشكال جميلة، تشير الى براعة الصنعة.

ووفقا للمصادر التاريخية، فإن أول عازف لآلة العود القريبة من شكلها الحالي هو "ابن سريج"، ولمعت في ما بعده أسماء عدة برعت في العزف عليها كإسحق الموصلي وابراهيم المهدي وزرياب، قبل أن تبرز أسماء بارزة في العقود الأخيرة مثل فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب ووديع الصافي وغيرهم.

وكان للعود تسميات مختلفة في التراث العربي منها "المعزاف"، مثلاً، وهو كان له وجه ورقي. وعندما بُدِّل هذا الوجه بوجه خشبي في فترات لاحقة سميت بالعود.

وتطورت الآلة كثيرا عن أشكالها القديمة، وأدخلت عليها تعديلات كثيرة، فكانت في البداية وترين، ثم أضيف إليها وتران آخران. ويعود الفضل إلى زرياب، الموسيقي الذي عاصر الخليفة العباسي هارون الرشيد، في إضافة الوتر الخامس، لتحافظ الآلة على هذا الشكل إلى الآن.

وعرفت دمشق الكثير من المحلات التي تخصصت في صناعة العود وكانت تتواجد خصوصا في حيي زملكا وجوبر، شرق دمشق، وهما الحيان اللذان شهدا اعنف المعارك؛ ما دفع باصحاب تلك المحال إلى إغلاقها، وكذلك كانت ثمة مشاغل لصناعة هذه الآلة في سوق المهن اليدوية في التكية السليمانية، وسط دمشق.

وقبل اندلاع الأزمة في سوريا كان عدد مشاغل صناعة العود في هذا البلد يربو على العشرين، أغلبها في دمشق مع بعض المشاغل القليلة في حلب وحماة، لكن لم يبق منها سوى أربعة مشاغل في دمشق، حسب آخر التقارير.

خشب الورد والأبنوس

ويعتبر الخشب المادة الأساس في صناعة العود، وهي تقسم إلى أجزاء وفق مقاسات دقيقة وتخضع لعمليات كيميائية مدروسة ليستخرج منها ما يسمى "طاسة العود" أو صندوق الصوت، ووجه أو صدر العود، والزند مع امتداد له يسمى الكوع الذي تثبت عليه المفاتيح المعروفة في لغة صناعها "بالملاوي" التي يستخدمها العازفون، للحصول على النغمة الأجمل، عن طريق التحكم بشد الأوتار.

ويجتهد صناع هذه الآلة بتزيين الزند وأجزاء أخرى من الآلة بزخارف ونقوش وموزاييك من الصدف والعاج ذات أشكال جميلة، تشير الى براعة الصنعة.

وإضافة إلى جودة الصناعة، فإن الخشب المستخدم في صناعة الآلة يلعب دورا في تحديد سعرها، والنوع الأغلى هو العود المصنوع من خشب الورد والابنوس والدلب.

وتبلغ اليوم قيمة العود في الأسواق ما بين 200 دولار أميركي إلى 500 دولار كحد وسطي، لكن قد ترتفع قيمته لأكثر من ذلك بحسب جودة الخشب والنقوش والزخارف وغيرها من التفاصيل الصغيرة التي يعرفها الموسيقيون.

الصوت يرق كلما عتق العود

وللعود خمسة أوتار ثنائية، تصنع الأوتار الثلاثة الأولى من البلاستيك، في حين يصنع الوتران الرابع والخامس من خيوط الحرير، ويلف عليها سلك ناعم من النحاس، ولهذه الأوتار تسميات أقرب إلى الفارسية فتسمى من الأسفل إلى الأعلى: "كردان، نوى، دوكاه، عشيران، اليكاه".

أخبار ذات صلة
السعودية .. كشف حقيقة فيديو إمام المسجد محترف العزف على العود

ويقول خبراء هذه الصناعة، إن آلة العود لا تطاوع العازف، مهما كان بارعا، إن لم تكن مشغولة في شكل ممتاز، فلها أبعاد نظامية يجب مراعاتها، ولا بد من اختيار الخشب المناسب الذي لا يكتم الصوت، ويفضل أن يكون صدر العود مخفوضا في الوسط بمقدار 5،2مم عن حوافه، وله فتحات تسمى "قمرات" بالقرب من "مضرب الريشة"، وهي تفاصيل صغيرة تشكل في مجملها، إن نفذت بعناية، لحنا شفيفا يميزه الموسيقيون.

ولآلة العود خاصية أخرى، إذ يكتسب صوتها عذوبة ورقة كلما تقدم بها الزمن وجفّ خشبها، فكلما عتق العود صار صوته أكثر نقاء.

وتنقل وكالة "فرانس برس" عن طوني طويل، وهو أحد الصناع القلائل لهذه الآلة المتبقين في دمشق، قوله، إن "كثيرا من الملحنين يضعون ألحانهم اعتمادا على آلة العود، ولا يستعينون بآلة ثانية؛ لأن العود تعزف عليه أكثر من 200 مقام فيعطي العلامة ونصف العلامة وربع العلامة ونصف ربع العلامة.. غير الغيتار، مثلا، الذي يعطيك الصوت ونصف الصوت".

ومع إدراج العود في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي، ستتعاون الأمانة السورية للتنمية مع المنظمة الدولية لدعم الحرفيين في ترويج وبيع منتجاتهم من أجل الحفاظ على الصناعة.

وقالت رشا برهوم، وهي مساعدة تنفيذية لبرنامج التراث الحي للأمانة السورية للتنمية: "..هذه السنة تنطلق خطة الصون وخلال السنوات القادمة أكيد سيكون هناك مشاريع أكبر".

ويمكن للعود المصنوع بعناية وحرفية أن يبقى لسبعين عاما دون صيانة، وهو ما يدلل على أهمية إتقان هذه الصنعة؛ إذ يتحول العود، مع مرور الزمن، إلى قطعة أثرية كلاسيكية تروي مهارة الأسلاف وحرصهم على الاهتمام بأدق التفاصيل في صناعة موروثة، آيلة للاندثار.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com