"سعف النخيل" في تونس.. حرفة فنية تراثية تصارع من أجل البقاء
"سعف النخيل" في تونس.. حرفة فنية تراثية تصارع من أجل البقاء"سعف النخيل" في تونس.. حرفة فنية تراثية تصارع من أجل البقاء

"سعف النخيل" في تونس.. حرفة فنية تراثية تصارع من أجل البقاء

كعادتها كل صباح، وقبل أن تدب الحركة في منطقة تبلبو بمحافظة قابس، جنوب شرقي تونس، تبدأ الخالة ربح يومها باكرا، فتجهز سعف النخيل المجفف أمامها في ركن من فناء منزلها الفسيح قبل أن تشرع في ضفيرة سعف النخيل.

ويستعمل سعف النخيل لصناعة السلال والمظلات والحقائب وحافظات النقود وغيرها من الصناعات اليدوية التقليدية التي تحولت إلى نشاط يكاد يكون الخاصية الأبرز في قابس، والنشاط الأول للآلاف من الحرفيين التقليديين هناك.

"ذلك هو عملي المعتاد منذ أكثر من عقدين من الزمن، أجمع منه الخير والبركة، وأبيع ما تصنعه هاتان اليدان لبعض الحرفيين الذين ينشطون إما في بيع الصناعات التقليدية في الأسواق أو في تزويق تلك المنتوجات وإدخال إضافات أخرى عليها ثم ترويجها".

بهذه الكلمات تحدثت المرأة السبعينية "الخالة ربح" لـ"إرم نيوز"، عن نشاط أضحى ميزة لكثير من أهالي قابس، وتجاوز كونه هواية ليصبح مصدر رزق لآلاف العائلات وفنا وابتكاراً.

وفي هذه المهنة، يبذل أصحابها جهدهم لصناعة سلال أنيقة ومزركشة ومظلات مختلفة الأشكال والأحجام ومحافظ وحقائب والمروحة اليدوية ومنتجات أخرى تستعمل إما للباس أو للديكور والتزويق داخل المنازل أو لحفظ الأمتعة.



وتعمل ربح مع إحدى الحرفيات، وتتمثل مهمتها في صنع السلال والمظلات أو القبعات التي توضع على الرأس للوقاية من أشعة الشمس القوية، وعادة ما يستعملها المزارعون والبحارة والعمال الذين يشتغلون تحت درجة حرارة عالية.

وتحصل المرأة يوميا على كميات من سعف النخيل المجفف لتتولى تحويلها في البداية لضفائر، قبل أن تبدأ في تركيب تلك الضفائر بطريقة متناسقة وبديعة ليتحول سعف النخيل لقبعة أو محفظة متماسكة.

وتضيف ربح: "العمل في الصناعات التقليدية من خلال سعف النخيل صعب، ولكنه ممتع، تحول هذا النشاط لخبز يومي بالنسبة لي، وأصبح عادة لا يمكنني أن أتخلى عنها، أخذنا الزمن ونحن نصنع السلال والمظلات والقبعات وسائر المنتجات الحرفية حتى أصبح الأمر شيئا من واقعنا اليومي المعيش".

وتتوفر في قابس، مثل أغلب محافظات الجنوب التونسي، مادة سعف النخيل بكثرة، بفضل الواحات الشاسعة، ووفرة تلك المادة الأولية، ليصبح استغلالها وتحويلها لمنتجات يدوية تقليدية على غرار المظلة والمروحة والسجادة نشاطا حرفيا عريقا وضاربا في أصول وأعراف أهالي "قابس" منذ عهود خلت، حتى توارثه الأبناء وصار قطاعا ترتزق منه آلاف العائلات، لكنه في النهاية فن يعتمد بالأساس على ما تبدعه الأنامل من تصورات وابتكارات.

وتعتمد صناعات "السعف" على أغصان النخيل اليابسة، ولكن المهارة اليدوية والإبداع في الابتكار وحسن صناعة الضفائر وتركيبها فن وحرفة توارثتها الأجيال رجالا ونساء ولم تفرط فيها حتى الآن.

وأفادت مصادر رسمية لـ"إرم نيوز" أن هذا القطاع يشغل ما يزيد عن 20 ألف حرفي وعامل أغلبهم من النساء ممن دأبوا على امتهان هذه الصناعة ونجحوا في تطوير الحرفة لتتحول لفن إبداعي وابتكار، فضلا عن كونها مهنة توفر قوت العائلات هناك.



وبحكم أن أغلب الأعمال يدوية ولا تحتاج إلى "آلات" أو التنقل، فإن معظم الناشطين في قطاع الصناعات من سعف النخيل هم من النساء اللاتي يقضين جزءا من يومهن في ضفر السعف، وابتكار عديد المنتجات.

ويأتي الحرفيون الكبار لأخذها للأسواق وبيعها إما في أسواق الصناعات التقليدية في عدد من المدن، مثل العاصمة تونس ونابل وجربة وسوسة وغيرها، أو في معارض خاصة بالمنتجات الحرفية أو حتى في أسواق البلدان المجاورة مثل الجزائر وليبيا.

ورغم كثرة المهنيين الناشطين في قطاع الصناعات التقليدية من سعف النخيل، فإن هذه الحرفة تعاني من عدة صعوبات، أبرزها غياب الدعم وصعوبة الترويج، فضلا عن تراجع النشاط وضعف ترويج منتجاتهم جراء الوضع الوبائي وتفشي فيروس كورونا في العامين الماضيين.

ويقول ماهر رجب، شاب صاحب مشروع في تزويق المنتجات التقليدية وإعادة إكسائها وتغليفها، إن نشاط الصناعات التقليدية حرفة تختزل الكثير من الصبر والعزيمة والتحدي، لأن صنع سلة واحدة وتزويقها أو تغليفها يتطلب أحيانا ساعات من العمل والتركيز.

ويقول ماهر رجب - 39 عاما- لـ"إرم نيوز": "منذ انقطاعي عن الدراسة في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، التحقت بمدرسة للتكوين في الصناعات التقليدية، عملت في هذا النشاط طويلا قبل أن أبعث مشروعي الخاص وهو محل صغير لتزويق وتغليف مختلف الصناعات التقليدية والمنتجات المصنوعة من سعف النخيل ثم عرضها للبيع".

ويضيف: "وجدت صعوبات في البداية، هذه المهنة ليست سهلة، والصعوبات التي تشهدها تسببت في تقلص عدد الحرفيين، ولكن رغم ذلك فان الإصرار ما زال يشد الكثير منهم إلى هذه الحرفة والسعي لتعليمها للأجيال القادمة".

وبحكم أنه يعاني من إعاقة عضوية، مثّل النجاح في مشروع الصناعات التقليدية تحديا خاصا لماهر، الذي يقول: "البداية كانت قصة غرام وولع، إعاقتي على مستوى الساق زادتني رغبة في التحدي وعزيمة لأحقق النجاح في حرفة تتطلب الصبر. لم أحصل على الكثير من الدعم ولكني أغالب الصعوبات في هذا القطاع".

وشارك ماهر، مثل كثيرين من النشطاء في الصناعات اليدوية التقليدية، في معارض أقيمت لعرض وبيع المنتجات، ويقول: "هناك حرفيون كبار يسيطرون على السوق، بالنسبة لي أتعامل مع عدد محدود من العاملات، أقتني المنتجات وأقوم بتزويقها وتغليفها وإعادة ابتكارها ثم أتولى بيعها، أطمح لأن يكبر هذا المشروع، كان حلما ولا يزال".

وعادة ما يجتمع الحرفيون والباعة في سوق "جارة" التقليدي، وهو أهم سوق في قابس، تعرض فيه البضاعة للبيع وتنتصب هناك محال لبيع كل أنواع المنتجات التقليدية وغيرها، التي تصارع من أجل البقاء وتجاوز عديد العراقيل التي تهدد هذا النشاط.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com