لماذا يتصدر المسرح الحراكات الثقافية والاجتماعية؟
لماذا يتصدر المسرح الحراكات الثقافية والاجتماعية؟لماذا يتصدر المسرح الحراكات الثقافية والاجتماعية؟

لماذا يتصدر المسرح الحراكات الثقافية والاجتماعية؟

منذ انطلاق رحلة المسرح، عبر تاريخ الوجود الإنساني، بداية بالفراعنة والإغريق، وحتى تاريخه الحديث، لم يغب حضوره عن الوعي الجمعي البشري، وقد أولى الإنسان ساحة العرض الفنية هذه، اهتماما كبيرا؛ لما تحققه من تغذية روحية وفكرية له، وما تحققه من نهضة لحضارته.

وعلى الرغم من تعدد وسائل الترفيه والتثقيف التي ابتدعها الإنسان طوال القرون الماضية، وقد كان من أهمها تقنيا، التكنولوجيا، إلا أن المسرح يبقى متواجدا بقوة، بين أنماط الفنون الأخرى. هذا بفضل مميزاته الخاصة التي لا يزال يحتفظ بها، كهوية فنية عملاقة، مكنته من نيل لقب الأب، بين الفنون جميعا.

تجارب

على الخشبة المسرحية هناك حياة أخرى، أوسع،  ففي الوقت الذي يحاصر الواقع ذهن الإنسان ويؤطره في مساحات محدودة، يكسر المسرح كل تلك الحواجز، ويفتح المجال أمام العقل الآدمي، لاكتشاف ما لا يمكن حصره، من التجارب والأفكار، فالفكرة في المسرح تخرج من الباب الكبير دوما، وتشكل لحظة فارقة في حياة شخص ما، أو أكثر، جاء ليرى ما تقوله الخشبة الفنية من قناعات، وما تعرضه من حركات خارج سياق الواقع.

إنه المنظور للعالم من الضفة الأخرى، كأن ترى الشاطئ من جهته العكسية، بالطبع ستتبنى انطباعات مغايرة. وبينما يسير العالم بسرعته الهائلة، هناك عيون خفية، تبطئ سير هذه العجلة الجافة، لتفرز ما يمكن إخباره للجمهور وقت العرض. هذا الاختلاف في الرؤية  يزود المرء بأسلحة متنوعة، لاجتياز ضوضاء العالم، بسلام.

ولأن الإنسان يتعزز وجوده بتعدد تجاربه، فإن التجربة التفاعلية مع المسرح تفتح الطريق أمام الوعي البشري لمعايشة حياة أشخاص آخرين، لم نمتلك الوقت والجهد للفوز بها مسبقا، فكرا وحسّا.

رؤية مختلفة

وقيمة أخرى للمسرح، أنه يزيل الغبار عن المرايا، الغبار الذي يحجب الحقيقة عن عين الإنسان، فيتكفل المسرح وكافة الفنون بهذا، لتظهر اللقطة كما يجب أن ترى. إذ إن العيش دون أوجه متباينة للفكرة نفسها، يجعل من الفكرة سدا في طريق الإنسان.

حدث رياضي للقلب

كما أن مشاركة التجارب مع الآخر، ترفع من ذكاء الإنسان الاجتماعي، وما تأتي به تجربة مشاهدة المسرح، وذلك لا يقتصر على مشاهدة الفنان، إنما على الالتفات لوجوه الحاضرين للمسرح، بكافة حركاتهم وإيماءاتهم، يحقق لحظة غير عادية لدى الإنسان.

ويؤيد هذا مدرب المسرح "جانيل سنو إيه"، حيث يقول: "إن المسرح مثل حدث رياضي يخص القلب، حيث نجتمع في مساحة، غالبا الكتف بالكتف، ونتنفس نفس الهواء، ونختبر نفس المدخلات الحسية، ونترك أفكارنا وعواطفنا، يسيرون معا، إلى لحظة غير متوقعة". هذا ما لا يتحقق في التلفزيون، والمنصات الإلكترونية، وإنما في المسرح فقط، فالعزلة التي تفرضها الشاشة عن مكونات العرض الفني في العروض السينمائية بكافة أشكالها، تتسبب في فقدان بعض أدوات التفاعل مع العرض، وغياب تلك الشاشة من أهم مميزات المسرح.

مشاعر لا تتكرر

وعلى صعيد آخر، قد نشاهد فيلما، ونستمتع بطرحه، لكن هذا العرض، يبقى في طور التكرار في حال طمحنا إلى إعادة مشاهدته، هي نفسها اللحظة، ونفسه التفاعل من الفنان، لقد تم تسجيلها بعناية، لتبقى في الصيغة نفسها، فمهما شاهدناها، ستبقى بنفس المكونات، لكن اللحظة في المسرح، لا تتكرر، فهي في كل مرة، تعطي ملامحا جديدة للفنان، وشهقات وضحكات وإيماءات مختلفة عما سبق، في حال أعاد الفنان نفسه تمثيل المشهد عينه، التجدد هذا، يعطي مساحة أوسع للتفكر، ويزيل احتمالية الملل من العرض الفني.

خلف الكارافان حياتنا

في المسرح يجلس المشاهد، وتتلاشى من مخيلته، احتمالية أن ما خلف "الكارافان" يختلف تماما عما يشاهده على خشبة المسرح، فهذه الألواح التي تصنع للمسرح كواليسه، هي حد خلفي فاصل بين الفن والواقع، فما خلف الكارافان هو المثيل تماما لما يشعر به أي شخص من الجمهور، واقعيا، حيث يكون الفنان، هو ذاته إنسان الواقع، لكنها خشبة المسرح تصنع الفارق في شخصيته، فبمجرد الظهور عليها يكون قد دخل في طور الشخصية الفنية، التي جاء من أجلها الجمهور.

الحوار

وميزة أخرى للمسرح تجعل منه دائم الحضور في مقدمة الحراكات الاجتماعية والثقافية، وهي قدرته على الربط بين الفكرة والجمهور، من خلال إتاحة المجال للحوار وإثارة الجدل حول الأفكار المطروحة. فالكثير من المسرحيات تتخذ نهايات مفتوحة، لتجعل مسار الحدث في المسرح بين أيدي الجمهور، هم من يحددون إلى أين تذهب النهاية، هذا النمط التفاعلي، يتم تنفيذه مع الأطفال في المسارح المدرسية، بهدف تعزيز قدرة الطالب على الحوار، واستنباط الأفكار المختلفة من الحدث، وكذلك المشاركة في صنع القرار الأمثل.

دراسات عديدة أشارت إلى أن قدرة الطالب على التحصيل العلمي تتزايد، من خلال تفاعله مع العرض المسرحي، والمشاركة في الحوارات الممتدة بعد انتهاء العرض الفني من الممثلين.

قيل سابقا، إن الحياة مسرح كبير، ولو عكسنا ذلك سيكون أكثر دقة، فالمسرح كلما كبر مضمونه، لا حجمه، كبرت معه فكرة الحياة برمتها. هذا الصندوق المفتوح يقدم تجارب الحزن والفرح والأمل والحب والفقد وطرق التفكير الاكثر جدية، ليختبر الإنسان في عقله الجديد، وحواسه، ويزيد من أدواته، يكتب الناقد أدريان كوري عنه: "لقد ثبت أن دقات قلب أعضاء جمهور المسرح الحي متزامنة، لذلك أعتقد أن ليست هناك طريقة أكثر قوة من المسرح، لتجربة أحزان الحياة، وأفراحها، ونقاط ضعفها"، ويكمل: "ليس هناك شعور أجمل من أن تلك القلوب تنبض، بينما تنهمك في الضحك أو اللهاث، أو التنهيدات، ليس هناك إنجاز أفضل".

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com