هل يحل دينار "الخليفة الواقف – ضرب دمشق" لغز معركة "سيباستابولس"؟

هل يحل دينار "الخليفة الواقف – ضرب دمشق" لغز معركة "سيباستابولس"؟

تعتبر حقبة ما قبل الإصلاح النقدي الأموية من أكثر الحقب التاريخية التي تفتقر بشكل حاد للمخطوطات المعاصرة لها التي تتكلم عنها، وكذلك للمسكوكات الناجية منها والتي قد تخبرنا بما حدث فيها.

ورغم احتواء تلك الحقبة على أحداث تاريخية هامة وعلى رأسها معركة "سيباستابولس"، التي وقعت سنة 692 ميلادية (72 هجري)، واندلعت بسبب فئة مسكوكة أموية لم يتم إصدار مثيل لها من قبل، أرسلها الخليفة الواقف (عبد الملك بن مروان) لدفع الإتاوة بها إلى الإمبراطور جستنيان الثاني ورفضها الأخير وأعلن الحرب على الخليفة عبدالملك بسببها وانتهت المعركة بانتصار الأمويين..

إلا أنه وليومنا هذا لا أحد يستطيع بشكل قاطع تأكيد ماهية وفئة المسكوكة التي أدت إلى تلك الحرب، حيث اجتهد البعض بالقول إنها من فئة الدينار العربي-البيزنطي الثلاثي، ومع ذلك ظلت الإجابة معلقة في التاريخ.

وهذا ما دفع اليوم لإعادة مناقشة قالب مهم لفئة نقدية أموية، أطلق عليها اسم "الفئة المنسية" بعد أن ظلمت بسبب نقص المخطوطات والمسكوكات في حقبتها، وظلت طوال عقدين ضحية اجتهادات ظنية لا تستند على أي أسس علمية.

دينار الخليفة الواقف
دينار الخليفة الواقفورقة بحث يزن التل في موقع أكاديميا

دينار الخليفة الواقف (ضرب دمشق)

تشير ورقة بحثية للباحث يزن التل في موقع "أكاديميا"، إلى ارتباط الدينار (صورة 1)، وعليه نقش للخليفة عبدالملك بن مروان، وعلى هامش الوجه نقش بالخط الكوفي "لعبدالله بن عبدالملك أمير المؤمنين"، بينما نقش في الخلف كلمة التوحيد، بوجود علاقة بينه وبين القطع النحاسية التي تمتاز أغلبها بالشكل الدائري الأكثر انتظاما من فلوس الخليفة الواقف المعهودة، والتي أثارت بدورها لغزا حول تفسيرها.

ورغم العلاقة الجدلية بين الدينار وهذه النقود النحاسية، لكنها قد تكون المفتاح في إعادة قراءة هذه الفئة المهمة من المسكوكات.

قوالب نقود نحاسية مطابقة للدينار
قوالب نقود نحاسية مطابقة للدينارورقة بحث يزن التل في موقع أكاديميا

تفسيرات لتطابق الفلوس مع قالب الدينار

أحد التفاسير المحتملة لحدوث تطابق بين قالب الدينار وقالب الفلس (كما في مجموعة الصور) أن هناك احتمالية أن يكون إصدار النقود النحاسية قد تم على قالب استُخدم مسبقا لإصدار دنانير ذهبية، أو قد يكون خطأ بالإصدار تم تداركه فيما بعد بإلغاء هذه الفئة، خاصة أن هذا التطابق كان من المحتمل أن يؤدي أو أدى إلى عمليات تزييف أثناء تداولها من خلال طلاء النقود النحاسية بمعدن الذهب أو إضافة مادة صفراء على السطح لهذا الغرض، إلا إذا كان التداول بهذه المسكوكات محصورا على فئة من السهل عليها التمييز و/أو كان المقصود منها استخدامها لمناسبة معينة أو أغراض معينة حصرا.

لكن هذا التفسير بدا الآن بعيدا عن حل اللغز، بعد أن صار هناك تفسير منطقي أقرب.

إذ إن التفسير القائل باحتمالية أن تكون أماكن الضرب الموجودة على القطع النحاسية المتطابقة قوالبها والتابعة لأجناد وأماكن ضرب مختلفة، هي أفضل ما يمكن التعويل عليه لحل اللغز.

فبالنظر إلى أغلب الأمثلة المنشورة لفلوس الخليفة الواقف، هناك أدلة على أنه كان لأماكن الضرب المختلفة أشكال وقوالب خاصة وإن ارتبطت بعض قوالبها بالمؤخرة أو الوجه، مما يدل على أن الأجناد أو الحكام المحليين كانوا يتمتعون بصلاحيات جيدة في إصدار فئة الفلوس من خلال دور ضرب لا مركزية.

وعليه، وبالرجوع إلى أماكن الضرب الموجودة على القطع النحاسية ومنها على سبيل المثال – المنشورة منها وغير المنشورة - دمشق وفلسطين وقنسرين وجبرين ومنبج والجسر وحمص وحلب.. إلخ، قد نرى من خلالها مؤشرا جيدا على أنه قد تم إصدارها من قبل سلطة أعلى يخضع لسيطرتها المركزية جميع أماكن الضرب المذكورة، وبالتالي يطرح السؤال فيما إذا كانت السلطة المركزية للخلافة بدمشق هي التي أصدرت هذه النقود النحاسية بشكل مباشر؟.

على الأرجح أن دمشق وحدها كانت المكان لضرب النقود الذهبية في حقبة ما قبل الإصلاح، وحتى لو وجد مكان ضرب آخر أو دور ضرب متنقلة لتلك النقود، فإنه من المؤكد أن إصدارها كان يتم من قبل الخلافة وتحت إشرافها مباشرة أو بإشراف الخليفة بشكل مباشر، بعكس الصلاحيات اللامركزية الممنوحة في إصدار فئة الفلس للسلطات المحلية أو الأجناد.

هل حل الدينار اللغز؟

لعلّ الدينار أعطى حلا منطقيا للغز بتطابق قالبه مع قوالب القطع النحاسية وأصبح من الأسهل علينا حل إشكالية أماكن الضرب العائدة للأجناد المختلفة الموجودة على تلك القطع، بحيث أعطى الدينار إثباتا جيدا بأن القطع النحاسية لم يكن المقصود منها فلوسا للتداول وإنما "دنانير نحاسية تجريبية " تم إصدارها من قبل السلطة المركزية بدمشق التي تتبع لها جميع الأجناد وجميع أماكن الضرب المكتوبة على القطع النحاسية..

ففي الحقب القديمة أمثلة على ضرب بعض فئات النقود على معادن عالية القيمة بشكل تجريبي وعلى معادن أقل قيمة مثل النحاس أو الرصاص من قبل دور الضرب لأخذ الرأي فيها وبالتالي موافقة السلطة المختصة على إصدارها بشكلها النهائي، وكما هو في عصرنا الحديث الإصدارات التجريبية التي تتم على فئة ورقية من غير طبيعة الفئة النهائية أو معدن من غير نوع المعدن النهائي المنوي الإصدار عليه.

صورة 10 يرجح أنه فلس أيوبي قد يكون مزيفا، مقارنة بصورة 9 لفلس أصلي.
صورة 10 يرجح أنه فلس أيوبي قد يكون مزيفا، مقارنة بصورة 9 لفلس أصلي.ورقة بحث يزن التل في موقع أكاديميا

خطأ نظرية التزييف

من المرجح أنّ بعض الدراسات أخطأت التوجه، وجانبت الصواب، وأهمها ما نشرته الباحثة إنجرد تشوالز في مقالات لها عن بعض القطع النحاسية المطابقة قوالبها و/أو المرتبطة بقالب الدينار، حيث انتهت إلى اعتبار مسكوكات الخليفة الواقف – المرتبطة منها وغير المرتبطة – مزيفة، وذلك بسبب قطعة جبرين المضروبة على ما يعتقد أنه فلس أيوبي (صورة 10)، وكذلك بسبب بعض القطع المزيفة الأخرى التي وصلت للباحثة؛ مما أدى ربما إلى وقوع القطع الأصلية والمهمة لتلك الأمثلة الجديدة لمسكوكات الخليفة الواقف ضحية للأمثلة المزيفة المنشورة؛ ما أدى إلى تعطل البحث بهذه الفئة المهمة من فئات مسكوكات الخليفة الواقف تبعًا لذلك.

الفئة الأهم؟

من المرجح أن القطع النحاسية، والتي عليها أسماء مناطق تعود لأماكن جميعها كانت تحت سيطرة الخليفة عبدالملك بن مروان قد سُكت قبل سنة 74 هجري، ولا يوجد من تلك الفئة ما عليها أماكن ضرب لمناطق وقعت تحت سيطرة الأمويين بعد تلك السنة، حيث كان من المنطقي في تلك السنوات السابقة للسنة المذكورة أن يعطي الخليفة عبدالملك بن مروان أهمية للمكان على التاريخ، فكان مكان الضرب على المسكوكات إثباتًا لسيادة الخليفة عبدالملك بن مروان على الأماكن المكتوبة على تلك النقود بمواجهة عبدالله بن الزبير وأخيه مصعب، وما يدل بشكل واضح على ذلك ظهور التاريخ على فئة دينار الخليفة الواقف ما بين 74-77 هجري، التي بدأ إصدارها السنة التالية بعد مقتل عبدالله بن الزبير سنة 73 هجري وإحكام الخليفة عبدالملك بن مروان سيطرته بشكل كامل على الحجاز والعراق، فلم يعد لمكان الضرب على المسكوكة أهمية كما كان من قبل، وأصبح تاريخ الضرب الأكثر أهمية بعد ذلك.

وعليه، تشير الورقة البحثية إلى أن رحلة الإصلاح النقدي الأموية للمسكوكات الذهبية قد مرت بأربع مراحل، وهي:

- حقبة الدينار العربي البيزنطي.

- حقبة دينار الخليفة الواقف غير المؤرخ قبل 74 هجري، على الأكثر بين 72-73 هجري.

- حقبة دينار الخليفة الواقف المؤرخ ما بين 74- 77 هجري.

- حقبة الدينار العربي الصرف مع نهاية 77 هجري.

وإذا ما عدنا قليلا إلى ما قبل 74 هجري، فإنه يعود التساؤل مرة أخرى عن الفئة النقدية الأموية التي أدت إلى اندلاع معركة "سيباستوبولس" بين الخليفة عبدالملك بن مروان والإمبراطور جستنيان الثاني.

والآن، وعلى ضوء ما استجد من تفسيرعلاقة الفلوس النحاسية بالدينار، أصبحت هناك حاجة لدراسة الدينار كمسبب في المعركة، وإعادة قراءة في مرحلة ما قبل الإصلاح النقدي.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com