"بقع داكنة على ظهر الكف"...  مجموعة شعرية تفيض بالألم وتسبر أغوار الذات

"بقع داكنة على ظهر الكف"... مجموعة شعرية تفيض بالألم وتسبر أغوار الذات

أصدرت الشاعرة السورية ندى منزلجي، مجموعتها الشعرية الثالثة بعنوان: "بقع داكنة على ظهر الكف"، عن دار النهضة العربية 2022، تقدم فيها محاكاة ذاتية لقناعات الإنسان حول وجوده وعلاقته بالآخر.

وتعلَق العاطفة في قصائد ندى منزلجي بمشاعر الوجع أمام الذات والأشياء، صانعة حراكا حسيا، يحاكي الصوت الإنساني.

تختبر منزلجي في قصائدها السأم، وإحساس الرتابة والضجر الذي يجعل الإنسان متعمقا في ذاته أكثر، لينكشف على ردات فعل باردة تعزله عن العالم، حيث تقول: "السأم يومئ إليّ، فأتبعه بعينين ذليلتين".

صراع "سيزيفي"

تختبر الشاعرة كذلك الصوت الوجودي للإنسان، إذ تُكثف من تأمل الضعف الإنساني وهشاشة الجسد والمشاعر، أمام الصوت الجهوري للعالم، حيث تنكشف مشاعر الخوف والقلق في قصائد منزلجي مبينة الصراع الإنساني "السيزيفي" مع العالم، في إشارة إلى الأسطورة الإغريقية "سيزيف".

وتتناول الشاعرة أيضاً العديد من المشاعر البشرية تجاه الواقع القاسي الذي يحياه الإنسان، معبرة عن حالات مختلفة للحزن المغيّر لمادة الإنسان، والفراغ وما يمليه على البشر من تصلّب، وكذلك، مشاعر الوحدة والرحيل والفقد والانتظار.

تقسيم

تقسم الشاعرة مجموعتها إلى قسمين، في القسم الأول تكشف عن حوارها مع ذاتها، مقدمة من خلاله انطباعات شعرية، تخص تجاربها مع الأشياء والمفاهيم والقناعات من حولها، وفيه تميل إلى التفلسف في التقاط الأفكار وإدخالها في الحيز الشعري، ناقلة اشتباكاتها مع المعنى الوجودي والذاتي للإنسان.

أما في القسم الثاني، فتفرد فيه أحاسيس المرأة حول العاطفة والحب، والعلاقة الجدلية الدائمة التغير مع الرجل، من خلال صور اليوميات وتقلبات العلاقات العاطفية، والممارسات المجسدة لأفكار الأنثى وتناقضاتها مع رؤية الرجل، وتعطي الشاعرة لكل قسم رمزيته، ففي الأول "قفص مفتوح" هو الجسد، وفي الثاني "قط هارب" هو القلب.

مزيج

تميل الشاعرة إلى وصف مشهدي تخيلي للصورة الشعرية، حيث تهتم بالكثير من الجزئيات الواصفة، كلون الملابس وربطة الشعر، وهذا التجسيد يعزز من وصول صوت القصيدة، ويزيد من لهبِها الشعري.

وتستخدم منزلجي لغة متمازجة ما بين النثر والشعر، عبر التفصيل والإبطاء في مواطن مختلفة، والتكثيف في أخرى، محدثة الصفعة الشعرية والملامسة الشعورية، لكن المبالغة في الوصف والتفصيل بدت مغرقة في بعض الأماكن، ولربما كانت تتطلب الاكتفاء والدخول لحالة التكثيف، الذي يصنع الفارق الشعري.

نقرات

تحافظ منزلجي على النقرات الإيقاعية داخل قصيدتها، بما يضمن مضي العبارات على نسق جذاب، وتتالي موسيقي للعبارات، كما وحافظت على الموسيقى الداخلية للعبارات التي لطالما كانت تحمل المعنى الآخر، والصوت الخفي المتعمق، الذي تلمح إليه القصيدة، وذلك عبر 156 صفحة من القطع المتوسط.

وجع

تكتب الشاعرة عن الوجع السوري ورحلة الإنسان مع الدم، من خلال جمل شعرية ترسم لوحة للواقع السوري في زمن الحرب.

لكن طريقة منزلجي التلميحية فتحت يدَي النص ليستقبل المزيد من التأويلات حول الوجع البشري بكافة أشكاله، فكانت العبارات تصف حالة لا تشير إلى صورة بعينها، لكنها رسمت علو صوت الدم من حول الجسد الإنساني، وألمحت إلى المكان ومحاصرته للإنسان بالخوف والألم.

وتستخدم الشاعرة الصورة الصادمة من خلال توصيف الألم، تاركة الخيال للقارئ من أجل تتبع الحس بذلك.

وتستخدم القصيدة أيضا أدوات الإغراق في الشعور من خلال نثر العبارات الشعرية المتتالية، للتعبير عن سطوة الدم على الواقع السوري من كافة الاتجاهات، وتتحقق اللسعة الشعرية عبر ذلك،  إضافة إلى الاعتماد على  التناقضات بين اللون الأبيض والأحمر.

تقول الشاعرة في نص"حكاية ما قبل النوم": "لم تكن تخيط ثوباً لطفلة ببياض الثلج.. بوعي كامل.. أمسكت علبة الدبابيس.. تغرسها.. واحدا في كل إصبع.. وتضغط كمن يدفن سره في عمق أرض صخرية.. خمسة أصابع وكفّان.. فكيف يفيض الدم من النوافذ.. من شق الباب.. من أذنيها.. من مفرق الشعر.. من خيال الشمس فوق بساطها.. من الطريق المؤدي إليها.. حكاية ما قبل النوم.. في مدينة عصية.. في وطن خرافي.. في قبضة عظيمة.. في بيت ضيق.. كشقٍّ بين جدارين".

تهميش

تعرّج الشاعرة منزلجي على صوت المرأة في مجتمع ذكوري، يهمشها ويستضعفها ويقسو عليها، من خلال الممارسات المستمرة من التهميش والقمع ضد المرأة.

حيث تكشف عن الألم الباطني للمرأة من خلال نفي البوح، والذي يدلل على فقدان الرغبة في المحاولة.

هذه الحالة الملامسة للذات تأتي كصرخة شاعرية ضد الواقع الاجتماعي الذي تواجهه المرأة على الدوام.

وتكشف منزلجي عن الحوار الداخلي للمرأة من خلال محاكاة الطبيعة والتأثر بأصوات الأشياء من حولها، حيث تصنع مع الأشجار حراكاً شعورياً، تبين من خلاله بشاعة الحزن وسطوته على الذات.

وأيضا يتبين من خلال الحوار مع الحصى بصمتها وقسوتها، ومدى الحمل الذي تتكبله المرأة أمام نظام اجتماعي يلغي وجودها، وتجسد الشاعرة هذا الألم الداخلي عبر التشبيه المؤثر، بحال الحصى بعد مشية الإنسان عليه، دون اكتراث.

وتقول ندى منزلجي في نص "صِلات غير مرئية": "منذ زمن طويل.. لم أعد أخبر أحداً بما يحدث لي.. وحين أمر بشجرة.. أدير رأسي.. وأصفّر لحناً مرحاً.. الأشجار كالأمهات حزنها صعب.. أفضّل صحبة الحصى.. قلبها قاسٍ والكل يدوس عليه".

عاطفة

وفي جانب التجربة مع الرجل، تعطي الشاعرة جانباً من الوعي بماهية العلاقة العاطفية ومآلها، حيث الخسارة الحتمية، والنهايات والفراق والألم.

وكان لقصائد منزلجي حول ذلك، صوت المرأة المنحازة للعقل في العلاقة، مبينة خطورة الانجراف مع الحب دون لحظات توقف وتفسير للمشاعر.

فتعرض منزلجي في هذا الإطار المزج بين جنون العاطفة واسترسال المرأة في تفاصيلها، لكن ذلك، حسب رؤيتها، يمكن تداركه بالقدرة على اتخاذ القرار الفاصل، وبدء مرحلة جديدة من الصراع والألم، عبر الهجران، الذي بدا في قصيدتها، كلدغة نحلة، يبدأ أثرها في الانتهاء بمجرد حدوثها.

وتقول الشاعرة: "كنت أرقص.. مأخوذة باستجابة جسدي للموسيقى.. ابتسامة نجمة.. وعينان تلمعان.. حين أدركت.. أنها لحظتي المناسبة تماماً.. لأهجرك.. هكذا كنحلة تترك لدغة ساخنة.. وتختفي.. سم قليل.. وألم يبدأ بالتلاشي.. لحظة ولادته".

الشاعرة في سطور

ندى منزلجي، شاعرة سورية، من مدينة اللاذقية، تحمل بكالوريوس في الهندسة المدنية، وتقيم في لندن منذ عام 1998، حيث تعمل صحفية ومحررة.

وأصدرت من قبل مجموعتين شعريتين هما "قَديدُ فلٍّ للعشاء"2002، و"سرقات شاعر مغمور" 2014، وقد ترجمت قصائدها إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية والدنماركية.

الأكثر قراءة

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com