نبيل الملحم: إقحام الجنس في الرواية "سم".. وأكتب حتى لا أموت اختناقاً
نبيل الملحم: إقحام الجنس في الرواية "سم".. وأكتب حتى لا أموت اختناقاًنبيل الملحم: إقحام الجنس في الرواية "سم".. وأكتب حتى لا أموت اختناقاً

نبيل الملحم: إقحام الجنس في الرواية "سم".. وأكتب حتى لا أموت اختناقاً

يشبّه الروائي السوري نبيل الملحم نفسه بعازف الترومبيت على نهر الدانوب، فيقول "عازف بمفرده يساوي أوركسترا، ما من أحد من المارة يعيره انتباهاً، ومع ذلك ينفخ ويعزف، ويطلق أنفاس مُحتضِر، هو يفعل ذلك ليتسلى، ليكسر ستاتيك الحياة، هو يعزف لأنه إذا لم يعزف يموت اختناقاً".

ولأن الكتابة الروائية تمثل حياة موازية، لها تضاريسها ومناخها وأشخاصها، فإن خيال الروائي يتبع التفاصيل الصغيرة التي نشأت معه، ويطورها.

أثرت الطبيعة الجبلية والبيئة الأثرية التاريخية لمدينة السويداء، جنوبي شرق العاصمة السورية دمشق، في نشأة نبيل الملحم، فتعلم من بيئته الهادئة التأمل في المشاهد المتحركة والثابتة، وإنشاء العلاقات بينها، فيما عمل وعيه على التقاط اليقين وسط الحركة المستمرة للحياة.

انطلق نبيل نحو الهوامش، يفككها ليصنع منها حياة خلاقة تضج بالمعنى، عاكساً الفكرة بأكثر من مرآة، وكاتباً على كل سطح يواجهه لغة يفضح من خلالها قسوة العالم.

اتخذ الملحم هيئة الترحال عن بلاده، وعن الأماكن التي يزورها، باحثاً عن هوامش جديدة، نسيها الإنسان، وتنقل بين العديد من المهن، حيث الكتابة المسرحية والنقد الأدبي، والكتابة التلفزيونية، ليصنع إرثاً متشعباً من الفكر الإنساني.

وللملحم المولود عام 1953، العديد من الأعمال الروائية منها "موت رحيم"، و"حانوت قمر"، و"سرير بقلاوة الحزين"، و"بانسيون مريم"، و"آخر أيام الرقص"، و"خمارة جبرا"، و"إنجيل زهرة".

كما تنقل بين العديد من الصحف العربية في مهنة الصحافة، وقدم العديد من البرامج التلفزيونية، وهو يستقر في ألمانيا حالياً.

كان لـ"إرم نيوز" معه هذا الحوار":

كيف كان الوميض الأول مع الكتابة؟ وكيف غيّرت أدوات الكتابة طبيعة التجربة؟

الكتابة؟ أي كتابة تعني؟

أقصد الرواية.

الرواية ليست وميضاً، ربما يصح مصطلح "الوميض" على القصيدة، القصيدة عمارة تبنيها اللحظة، أما الرواية فسرداب يفتحه الزمن..

الزمن باتساعه هو الرواية، وإذا كنت سأحكي تجربتي وصولاً إليها، فلم أصلها إلا منهكاً بالذاكرة.. ذاكرات الأمكنة والبشر..
أنا من مواليد بيئة تضج بالحكايا، الحكاية بالنسبة إلى ناسها هي خيال المستقبل، الخيال بكل ما تحمله الكلمة، بدءاً من الجنازة إلى الولادة، هذه البيئة امتدت من البادية وضفاف البادية إلى شوارع من مدن مضاءة تضج بالخلاعة والبراءة والتعقيد.

ألهذا غصت بالذاكرة فلجأت للرواية؟

بالتمام.. لهذا بالتمام.

والصحافة؟

في بلداننا لا توجد صحافة ولا صحفيون، ولهذا لا أستطرد أبداً بالحكي عن تجربتي كصحفي، هي تجربة سمحت لي بأن أدخل الملاعب، متفرجاً، لا حكماً ولا حارس مرمى..

هي ذي الصحافة في بلداننا، ربما لها حسنتان، فهي مهنة مربحة بالقياس مع مهن مثل السمكري أو "كندرجي"، وثانيهما أنها تعطيك الناظور لتتفرج؛ هذه الفرجة أعانتني كثيراً على بناء الرواية.

كيف تصنع علاقتك بشخوصك الروائية؟ سأذكّرك بشخصية "رحيم" في رواية "موت رحيم".

رحيم في هذه الرواية "أنا المأمول"، هي رواية "أنا" بكل ما تعنيه الكلمة، ولكنها أنا خفية، سرية، لا تُعلن عن نفسها.. رحيم هو ما أتمناه لأكون جَدّاً طيباً لأبناء أبنائي.. جَدّ يهرب الأحفاد إليه ليتواطأ معهم على السلامة..

بالنسبة لرحيم هو نهاية رجل اكتشف بأنه "سخيف"، رجل يبحث عن السلامة لا عن الجمال، السلامة تعني الموت، تعني اللامعنى، تعني الخوف من الآخر..

الآخر مع "السلامة" كابوس، حارس خيالك، سجّانك، الجمال لا.. متعال، ومتواضع، زنديق وزاهد، يعكر صفوك إن أراد ويأخذك الى القيلولة إن رغب.

رحيم وصل إلى هذه الخلاصة ولكن أين؟ في دمشق والقنيطرة، وبرفقة رفاق أحفاده.. أولئك الأولاد الحالمين بالألوان والموسيقى وإطلاق النكات وصفارات الغزل، مجتمع قاده لمراهقة لاحقة بعد مراهقة أولى بدأت قبل ستين سنة.. رحيم بالنسبة لي هو "الزمن".



كيف تظن أن الغربي يتلقى شخصية رحيم، في "موت رحيم"؟ مثلاً: لو كان رحيم بطبيعته يعيش في أوروبا.. غرابة الشخصية، وغرابة الحدث، كيف يرفع كل منهما المستوى الفني للعمل؟

عجائز الغرب يموتون بصمت، أما عجائزنا فيموتون بالضجيج على عكس القراءات التي نتخيلها.. العجوز الغربي مفرد ووحيد ولا يأمل من الآخر البشري أكثر من الضمان الصحي ثم يلقي بكامل أعبائه العاطفية على كلبه..

كهول الشرق كهول القبيلة، فارق شاسع بين الكهلين، كهل القبيلة وكهل مدن المركز. مع ذلك، لِمِ لا يقرأها القارئ الغربي؟ ها نحن قرأنا الغرب، قرأنا الإلياذة.. الإلياذة المكتوبة بلغة البحار ونحن أبناء البوادي..

قرأنا الإلياذة.. كي لا يُفسر كلامي على نحو خاطئ، "موت رحيم" ليست إلياذة ولكنها حكاية إنسان يطرح السؤال المشترك، هو سؤال لكل الأمم بدءاً من سكان الكهف إلى وول ستريت والشانزليزيه، هو سؤال "الزمن".

كيف يمكن للكاتب أن يتمكن من البناء الروائي دون أن تفلت الأمور من يده؟

يتمكن من البناء الروائي حين تكون له ذاكرة تروي، وما تبقى حرفة؛ حرفة كما العمارة والنجارة والبناء الموسيقي.. في الموسيقى، كل آلة تعزف باتجاه، ولكن الهارموني يصنع السيمفوني النهائي ليشكل معزوفته.

ماذا أضاف لك العمل التلفزيوني في طريق كتابة الرواية؟

لا شيء سوى المزيد من الإحباط، فقد كانت تجربة خالية من المعنى؛ مسلسلي الأول "ليل السرّار" ارتكبت بحقه جرائم فظيعة، نتائجه أدمتني، ومسلسل آخر عن رواية "بانسيون مريم"، وكان السيناريو لي أيضاً توقف إنتاجه بعد تصوير 80 بالمئة من مشاهده، وكانت تجربة محبطة..

تجربتان محبطتان لا بد أن يتلوهما سؤال أين الخلل؟ وبمنتهى التواضع أقول: العيب عندي.

ماذا تجني على المستوى الشخصي، من شخصيات رواياتك، بعدما تبنيها، وتحديداً لأي شخصية تشتاق؟

أشتاق لشخصية "فرنسا"، فرنسا بالنسبة لي حملت الرواية.. بالمناسبة، لم تكن فرنسا وفق التصورات المبدئية لمخطط الرواية موجود فيها، هذه المرأة اخترعت نفسها واخترعت كاتبها..

أنا نادم كل الندم أنني لم أفرد رواية لروايتها؛ روايتها هي لا سواها، فرنسا عرّت هيبة العسكر، أسقطت هيبتهم، أخرجتهم من الماخور عراة، وشقت أول طريق للتظاهر في خمسينيات سوريا.

برزت الواقعية السحرية في رواية "خمارة جبرا"، بما فيها من رفض لاذع للواقع.. برأيك كيف يمكن للرواية أن تصنع التغيير؟

الرواية فعل، ربما ليس أعظم من بقية الأفعال، وبوصفها فعلا فهي تراكم لإنتاج أفعال، ربما لولا ذلك لتأخرنا في طرح سؤال "أكون أو لا أكون"..

هذا ما فعله شكسبير بنا، الرواية هي فعل تغيير، تبقى على هذا الحال حتى تتحول إلى "حزب قائد"، عندها تنتحر الرواية لحساب جعجعات التغيير وهتافات "أنت بطلنا".. خمّارة جبرا رواية متحررة من هذا الهتاف ومني".

ماذا تقصد بـ"متحررة مني"؟

أقصد أنها كُتبّت وأبطالها ومرحلتهم بدأوا رحلتهم فيها بدءاً من خمسينيات سوريا إلى لحظة أن هتف الشباب "الشعب يريد".. هي تاريخ ممتد من الإذعان إلى ذروة الرفض، وقد جاء متأخراً.

ماذا أردت ان تقول للمجتمع من خلال شخصية جاد الحق؟ وماذا تعكس هذه الشخصية؟

لم أرد أن أقول للمجتمع، أردت أن أبني الرواية، لست مبشّراً كنسياً يدعو الناس الى التوبة أو المعصية، أنا أكتب رواية وعلى القارئ أن يلتقط "الأمثولة"..

وإذا لم يحدث ذلك، فثمة خلل في أحد الطرفين، قد يكون الروائي، وقد يكون القارئ، وفي الحالين غير مأسوف على أي منهما..

جاد الحق في "خمارة جبرا"، هو تراكم رفض محبوس عمره خمسون سنة، تأتي لحظة الزلزال السوري يوم أصبح جاد الحق كسيحاً، في داخل هتاف يمتد خمسين سنة، جاء وأقدامه لم تعد تحمل هتافه، لقد جاء رفضه متأخراً.

ما وجه التشابه ما بين "أنيس" في "بانسيون مريم"، وجاد الحق في رواية "خمّارة جبرا"؟

الزمن.. كلتاهما شخصيتان وصلتا إلى المعنى متأخرتين، وهذا حال رحيم في "موت رحيم"..

بالنسبة لي، الزمن يجثو على أسئلتي كلها.. أنا ممن يأتون متأخرين عن الموعد، أو مستعجلين عليه.. ويبدو أنني حمّلت شخصياتي الكثير من أمراضي.. حدث هذه في رواية "إنجيل زهرة".

ما سر اهتمامك بالمنسيين من المجتمع، تلك الفئات التي تقيم على الهامش؟

المدن هي اليقين، الرصيف فيها يحدد مسار السيارات والدراجات الهوائية ومساحات المارة، والإشارات الضوئية تنبئك بحقوقك، المدن سوق وزبون، يعني يقين، اليقين يقتل الخيال، في الهوامش كل شيء موضع شك، اللحظة موضع شك، المصير برمته موضع شك..

لا أحد متأكد من غده، ولهذا يبحث عن الغد في الخيال.. الهوامش تعني ديمومة الشك، الشك هو الحياة، هو الخيال والخيال ولّاد فيما اليقين عقيم، ولهذا أنا أبحث في هوامش المدن..

أنا زبال يلملم ذاكراتهم، في المراكز المرفهة لا يحلمون، بدل الحلم يراكمون الإنجازات، في الهوامش لا ينجزون، بدل الإنجاز أحلام.. هذا هو سرّ اشتغالي على الهوامش.



كيف يخدم المشهد الإيروتيكي الرواية، وكيف يقلل من جودتها؟

أنا ضد مصطلح "منافٍ للحشمة"، المهم ألا يكون منافياً للحياة الروائية، ألا يقتحم الرواية عنوة، تماماً كما السياسة والواقعة التاريخية.. الرواية كما القطّة تعرف الغذاء المسموم وتميزه، وإقحام الجنس على الرواية هو هذا السم، أما حين يكون الجنس فعلاً روائياً فأذهب به إلى آخره..

في الرواية "لا سلطة تعلو على سلطة الراوي"، والإقحام اغتصاب للرواية، في الكثير من الأعمال الأدبية رواية، قصيدة، إقحام للجنس ربما بفعل متطلبات السوق..

مَن يبحث عن السوق فليبحث عن بسطة أخرى.. بسطة الرواية لا تسعى للربح، بسطة الرواية هي كاتب ينتحر إذا لم يكتب.. ينتحر عقلياً جسداً.. لا فرق.

في "حانوت قمر"، تستعيد حقبة مهمة من التاريخ العربي.. برأيك، ما أهمية الرواية في رصد التاريخ؟ ولماذا هي أهم من التغطية المعتادة للحدث بالأشكال الصحفية والفنية؟

أنا شخصياً لا أسعى لرواية تاريخية، فالتاريخ ملك المؤرخين.. المؤرخون كائنات محايدة، إن كانوا حقاً مؤرخين، أما الروائيون فهم كائنات خيال ربما أكثر حرية من المؤرخين..

وهنا يُستحَضر التاريخ بعين اللحظة، بعين ليست حيادية على الإطلاق، لا تمتلك نزاهة المؤرخ، تمتلك روح اللص..

الآن، في هذه اللحظة أنا أشتغل على شخصية "لص".. أكتشف معك بأن اللص فيه من روح الروائي، هو لا يسرق آنية نحاسية من أجل قيمتها الفعلية.. لا، بل يستمد قيمتها من خياله تجاهها..

"خمّارة جبرا" مشت على أزمنة سورية؛ هذه الأزمنة امتدت من ستينيات القرن الفائت إلى لحظة الزلزال السوري.. أما عن "الواقعية السحرية"، فلا أعرف إن كانت هكذا أم لا.. أنا لا يستهويني هذا المصطلح.

كيف ترى النقد العربي الحداثي، والقراءات المنتشرة في المنصات حول الكتب؟

غزارة هائلة لها وجهان، أحدهما يحمل ما يحمل من قصور الرؤيا، وآخر يستثمر بما يليق بسؤال المخاض الذي نحن فيه.. وبالنتيجة هذه الغزارة بالإنتاج بطريقة ما، هي طيبة.. ولقد أتاح هذا العصر فرصاً هائلة لاختبار النفس واختبار الآخر..

شيء طيب أن يتكاثر النقاد والكتاب وأصحاب الرأي، حتى لو حدثت زحمة، فالطبيعة تتكفل بترتيب نفسها.

كيف خدمك التعدد في توجهاتك خلال مسيرتك؟ ولو عدنا للخلف وقلنا لك اختر واحدة من المهن التي عملتها أيها تختار؟

ولا مهنة منها.. لو خيّرت لاخترت مهنة مزارع عنب، أحصد عنبي وأحوله إلى نبيذ.. نبيذ يُصنع على الطريقة اليونانية.. يبدأ عصر العنب بأقدام البنات.

هجرة الكاتب ما الذي تعنيه بالنسبة لك؟

الكتابة تبدأ من المكان، من تفاصيله، ومن تحدياته كذلك.. بالنسبة لي، الهجرة لم تعنِ سوى بيت بلا جدران، بيت له سقف وليس له جدار.. جدار أنطحه، منذ غادرت دمشق بت بلا بيت، الهجرة كسرتني، لم أصلح لها..

هنا وأنا أتنقل ما بين غرناطة وبرلين، استهلكت ذاكرتي بالتمام، يعني استهلكت روح الكتابة، اشتغلت على إنتاج ذاكرة للمكان، ربما أنتجت ذاكرة واحدة هي ذاكرة النمل الذي يتسلق رقبتي وأنا نائم في حديقة بين مجموع من البشر التائهين..

بشر بلا منازل ولا وعد، بين ناس الـ homless، هؤلاء منحوني ذاكرة العزلة ثم اختفوا، هي ذاكرة بلا شك، ذاكرة زمن لا تستطيع أن تحياه، زمن متخم بالظلال الكثيفة، لقد أخبرت زوجتي أنني بصدد رحلة جديدة، نحو فضاءات أخرى حتماً ليست فضاءات أوربية، سأكون في الطريق إلى كازبلانكا، أبحث عن أولئك السحرة الذين يخرجون الأرانب من قبّعاتهم.. هؤلاء من يمنحني ذاكرة للكتابة..

أوروبا آلة، آلة تمنحك الضمان الصحي، ولكنها لا تضمن لك إنتاج ذاكرة.. هذا المكان لا يشبهني.. زمانه أيضاً لا يشبه زمني.

هل تستعد لمشروع جديد؟

عندي مشروع تنقصني الشجاعة والحماقة.. أنا الآن حكيم، يعني ذابل.

أخيراً، ما الذي تريده من الرواية؟

أريد ما يريده عازف الترومبيت على نهر الدانوب، لقد مررت من جانبه وكنت في بودابست، وتساءلت: لِمَ يعزف هذا الرجل ويُتعب رئتيه على هذا النحو مقابل بنسات قليلة يضعها المارة في قبّعته؟

عازف بمفرده يساوي أوركسترا، ما من أحد من المارة يعيره انتباهاً، ومع ذلك ينفخ ويعزف، ويطلق أنفاس مُحتضِر، هو يفعل ذلك ليتسلى، ليكسر ستاتيك الحياة، هو يعزف لأنه إذا لم يعزف يموت اختناقاً.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com