محمد بن الذيب.. الشاعر المتمرد

استطاع الشاعر القطري المعروف "محمد بن الذيب" ابتداع طريقه الخاص في الشعر النبطي، فبعد أن كان هذا النمط الشعري الشعبي مقتصراً على الغزل والقصائد التي تعالج قضايا المجتمع على أبعد تقدير، نقله هذا الشاعر بمهارة وتمكُّن بارزين إلى نقد الأوضاع السياسية في البلاد العربية، بحيث باتت قصائده مفعمة بالهجاء للأنظمة والساسة وخطاياهم.

الذيب بخروجه عن المألوف حقق لنفسه ولشعره شعبية كبيرة، زادت مع الزمن بسبب تسخيره للغته في خدمة القضايا التي يتحدث عنها، حيث إنه أصبح الشاعر العربي المعاصر الذي حُكِمَ عليه بالمؤبد لمرتين.

جاء الحكم الأول بعد قصيدة الياسمين التي دافع فيها عما سُمي "الربيع العربي" الذي بدأ في تونس عام 2011، منتقداً الوضع في الحكومات العربية، والثاني مؤخراً إثر معارضته لقانون الانتخاب القطري المثير للجدل.

"الذيب القطري" أو "المارد الشعري" كما يحلو للبعض تسميته، كثيراً ما اخترق المحظورات بقصائده، التي إضافة إلى جرأتها، فإنها تمتاز بالجزالة وقوة الكلمة التي تتفعَّل أكثر مع إلقائه الواثق لها بتلقائية قلّ نظيرها، وكل ذلك جعل من النقاد يطلقون عليها "القصائد التي لعنت صاحبها" في إشارة لما يتعرض له "الذيب" بسببها.

ويقول الشاعر القطري في إحدى قصائده "ياخوك حنا العرب حكامنا من دون ذكر اسما/ يجي من بطن أمه للحكم كنه نبي مرسول".

وفي أخرى جاء "في زمان العولمة والانكسار الذاتي/ العروبة ضايعة والشعب ينكح نفسه".

وفي ثالثة "أريد أن أكون ثور.. فأهيج وأثور/ فقالت هل تجزم أو تسالم.. أن ترضى رابطة الثيران في العالم.. أن يكون بينها ثور عربي مسلم".

وفي رابعة "الحكومات العربية ومَن يحكمها.. كلهم بلا بلا استثناء حرامية".

مثل هذه القصائد السياسية الناقدة، توضح أن "ابن الذيب" مُتحرِّر من كل الخطوط الحمراء، ولا سقف لديه يعلو على سقف اللغة، وجلّ اهتمامه هو كتابة ما تمليه عليه أفكاره، التي قد تبدو مجنونة للبعض، إلا أنه لا يتراجع عن موقف اتخذه، أو يتنازل عن قصيدة كتبها.

فمرة كتب أنه مناصر لغزو العراق للكويت، وأخرى تغزَّل بقاسم سليماني بعد مقتله، وفي ثالثة انتقد الشيخة "موزة"، وفي رابعة أعلن إعجابه بـ"حسن نصر الله"، وغير ذلك الكثير.

ودفعت الجرأة في التفكير، بشعرية صاحب قصيدة الياسمين إلى المباشرة في كثير من الأوقات، واستخدام الألفاظ الفجّة، ولاسيما في بدايته، لكنها مع الوقت باتت أكثر جزالة، من دون أن تتخلى عن قوتها.

ولعل أول ظهور له في الكويت بيّن شخصيته وشعره، إذ قال عن الغزو "انتي سبة الغزو العراقي للكويت/ ولو غزا صدام مرة ثانية بغزي معه".

انطلق بعدها بأسلوبية لغوية خاصة تمزج بين الجد والهزل، راسماً هويته بختم فوضوي مفعم بالإبداع الشعري، وبعناد في الموقف اتجه أكثر نحو القضايا الإنسانية والقومية، بعد أن كان مقتصراً على مدح رأس هرم السلطة القطري، فبات يرى الأمور من منظور آخر، ما جعله ينتقل من "مدح السلطان" إلى الشاعر الثائر الذي لا يقبل الضيم ولا التخفي خلف الستار حتى حكم عليه بالمؤبد الأول بتهمة التحريض على قلب النظام.

صكّ إدانة الشاعر الملقَّب بـ"العجميّ" بني على "قصيدة الياسمين" التي يمتدح فيها "الربيع العربي" وينتقد فيها بشكل ضمني، أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، إذ جاء فيها: "آه عقبال البلاد اللي جهل حاكمها.. يحسب أن العز في القوات الأمريكية/ وآه عقبال البلاد اللي شعبها جايع.. والحكومة تفتخر في طفرة مالية".

ورغم أن شعبية "بن الذيب" زادت مع هجاءاته السياسية إلا أن لديه الكثير من القصائد الشفيفة، ومن ذلك ما قاله في أمه "وانته جنوبك كبار وعظمك الملتمي.. ما يساعد هيكلك أصلا على الحنيه"، فضلاً عن قصائده الغزلية الرقيقة التي يتحول فيها النفس الثوري إلى نفس عشقي خالص، وهيام في محاسن المحبوبة.

يقول: "لعيونك السود ياللي شفتك وهدا.. شوق المدينة بخفاقي وأنا ريفي/ تبعت درب الغلا من وين ما ودا.. ونسيت كل الحياة وجيت من كيفي/ أنت أول ضيوف عشقي ما أحدٍ عدا.. بوابة القلب ياكود أنت يا ضيفي/ وأنت الألف في دروب العشق قبل الدا.. وأنت أصدق العشق هذا حسب تعريفي/ وحقك من الرأس للإبهام تتحدى.. يوم الله أعطاك واعجز بك تواصيفي/ وحقك تغار وتغطرس لأنك مبدا.. يا قمة الذوق يا أغلى مواليفي/ ما أقول كنك جمال الورد لا ندى.. أقول كنك ربيعي من بعد صيفي/ فديت روحك تعااال وضمني جدا.. وأشره علي كان ما ضاعت سواليفي".

ويبقى الشاعر القطري ابن الذيب نقطة بارزة في تاريخ الشعر النبطي المعاصر، بحضوره الاستثنائي وجماليات إلقائه، وموقفه الخاص من وضع الإنسان العربي ومن لغة الشعر التي سخَّرها لخدمته، والتي جعلته في بعض الأحيان يعلن تعبه بالقول: "تعبت أشل السيف وأشد الحزام.. ‏في معركة ما ينعرف صنديدها"، لاسيما بعدما جعله شعره وجرأته ومناصرته للمظلومين وقوة لغته "الشاعر الملعون بقصائده".