فيلم "المبارزة الأخيرة".. إخراج "عبقري" يقدم وجهات نظر متباينة لملحمة تاريخية

امتاز الفيلم الأمريكي "المبارزة الأخيرة/ The Last Duel"، الصادر منتصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2021، بإخراج عبقري وسيناريو مكتوب بعناية، ليجسد أحداثا حقيقية وقعت في فرنسا بالعصور الوسطى، من وجهات نظر مختلفة.

وتدور أحداث العمل في القرن الرابع عشر، لتروي سيرة حياة صديقين يتحولان إلى عدوين، وينتهي بهما المطاف في مبارزة مميتة.

وفي المواجهة يسعى كل من البطلين إلى إثبات صحة كلامه وكذب الآخر، لتنهار صداقة جون وجاك أمام الاتهامات الخطيرة المتبادلة التي تتعلق بتعرض مارغريت زوجة جاك، لوصمة عار تمس بشرف العائلة الملكية.

وتطلب مارغريت من زوجها جاك معاقبة صديقه جون، بتهمة الاعتداء عليها واستغلاله لفترة بقائها وحيدة.

المبارزة

وبعد نقاشات واجتماعات عدة، يقرر الملك تشارلز السادس تنظيم مبارزة حتى الموت، وليتبين الحق من الباطل، مع إيمان الجميع المطلق بالعدالة الإلهية، والنهاية المأساوية للشرير، فالبقاء في محاكمات المبارزة دائما للأصدق، وفقا لمعتقدات العصور الوسطى.

ويصور العمل تجهيز الفتيات لمارغريت ثم الانتقال إلى ساحة المبارزة، في أجواء شتوية باردة وألوان زرقاء فاترة، ليعلن القائمون على المبارزة قوانينها وشروطها.

اتهام خطير

وتدور تساؤلات حول صحة ماهية الاتهام من عدمه، وصحة الادعاء باستغلال جون الظروف المتعلقة بغياب صديقه جون والاعتداء على مارغريت، أمام نفي جون القاطع لتلك الاتهامات الخطيرة، مؤكدا براءته وأنه وقع ضحية لدوافع وغايات سرية وخطة محكمة للإطاحة به.

ويبث الفيلم رسائل نسوية تسلط الضوء على تقييد حريات المرأة في تلك الحقبة، ومدى تعرضها للظلم الاجتماعي الذي يؤدي بكثير من النساء إلى مشكلات نفسية عميقة.

سيناريو متقن

وقسم المخرج العمل إلى فصول، ليتناول الفصل الأول منظور الفارس جاك الذي تعرضت زوجته للاعتداء، في حين يقدم الفصل الثاني وجهة نظر الجندي جون المتهم بجريمة الاعتداء، وتبرز في الفصل الثالث وجهة نظر مارغريت لنتورط في الأحداث في رحلة مضنية للبحث عن الحقيقة.

وبسرد تسلسلي ممتع ونص جذاب، يناقش الفيلم وجهة نظر كل طرف في القصة، وفقا لرؤيته ومنظوره الخاص المختلف عن الآخر، وبحبكة متقنة تحكمت طريقة السرد بمسار الحدث.

ولا يركز العمل على المبارزات الملحمية فقط، بل يتناول مواجهات فلسفية وحوارات أخلاقية معقدة، مع حضور لافت للتحليل النفسي والأبعاد الدرامية المدروسة للشخصيات.

وفي الحوارات العميقة المنمقة والمشاعر الوجدانية وصراع المفاهيم والمعتقدات، ما بين العار والصداقة وشرف العائلة والعلاقات والخيانة، نلمح تضاربا يمثل ميزة أساسية في مرحلة انتقالية مهمة في تاريخ البشرية.

ويُصنَّف الفيلم كعمل تاريخي درامي، مع جزء لا بأس به من مشاهد الحركة والتشويق، ليؤكد على مبدأ فلسفي يعتبر أن الحقيقة متعددة الأوجه.

إخراج

ونجح المخرج في تقديم أساليب عبقرية ساهمت في تعميق عنصر الغموض. وعلى الرغم من تكرار بعض اللقطات، فإنها عُرِضت في كل مرة بمنظور مختلف وطريقة بعيدة عن الملل والرتابة.

ومن أبرز نقاط قوة الإخراج، أن تقديم وجهات النظر لم يعتمد على تغيير السيناريو، بل اتكأ بالدرجة الأولى على عبقرية أخذ اللقطات واختيار الزوايا والكوادر، فكل وجهة نظر أعطت معنًى مختلفا دون مساس بالحوار تقريبا، وإنما اعتمادا على طريقة تصوير المشهد وتغيير تعابير الممثلين.

رابط تعلق

وسرعان ما ينشأ رابط تعلق بين المُشاهد والشخصيات، لنتماهى بسلاسة مع عمق صداقة الثنائي ونتعاطف معهما، ثم يصلنا شعور العداوة المفرطة بينهما والنفور الشديد.

والفيلم غني بأحاسيس التخبط والصراع، فالتعاطف مع الشخصيات آني مؤقت، وكل فرد من الأبطال معرض لنكسة درامية تضعه في دائرة الاتهام، بلمسات إخراجية متقنة تعمدت التركيز على مبررات ودوافع كل طرف من الأطراف؛ وفقا لمنظوره.

صورة جذابة

ونجحت الصورة البصرية في نقل المُشاهد إلى زمن العصور الوسطى، فكل صورة قدمها المخرج كلوحة فنية بما فيها من أزياء تراثية وحربية، فضلا عن الكوادر الواسعة المريحة للعين، في حين اعتمد المخرج في اللقطات الشعورية على العدسة القريبة للتركيز على صدق التعابير.

وفي المحصلة يصل الفيلم إلى مرحلة ترك بصمة وصورة ذهنية في ذاكرة المُشاهد، وهو أمر في غاية الصعوبة، وقلة من المخرجين يصلون إلى هذه المرحلة الإبداعية.

أداء وآراء

وقدمت الممثلة الصاعدة جودي كومر أداء لافتا يستحق وقفة، على الرغم من قلة خبرتها في عالم التمثيل وأداء أدوار البطولة، مقدمة شخصية غنية واثقة تدافع عن حقها المسلوب فضلا عن تعابير وجهها المتقنة.

ونقل موقع "آكشن ساين" الإسباني عن الناقد يسوع وسيرسو قوله إن "الفيلم رائع، ولكنه ليس أفضل عمل قدمه العبقري ريدلي سكوت، وعلى الرغم من قصر لقطات العنف، فإنها كانت على شكل انفجارات مخيفة ومشوقة وتحبس الأنفاس، فضلا عن طريقة التصوير الممتع والموسيقى التصويرية المتناغمة مع كل قطعة سينمائية".

وأشار وسيرسو إلى أنه "تحتاج بعض شخصيات الفيلم إلى تطوير، لكي يتجنب الكليشيهات المكررة؛ مثل شخصية ماري صديقة مارجريت، أو علاقة مارجريت بحماتها".

وفاز الفيلم بجائزة المجلس الأمريكي لمراجعة الأفلام "NBR" عن فئة أفضل فيلم في العام 2021، ورُشِّحت الموسيقى التصويرية من تأليف هاري جريجسون ويليامز، لجائزة القمر الاصطناعي لعام 2022، التي تقدمها أكاديمية الصحافة الدولية.

والعمل من إخراج ريدلي سكوت، وسيناريو نيكول هولوفسنتو. وبطولة مات دايمون، وبن أفليك، وآدم درايفر، وجودي كومر.