الفنون الكورية تكتسح العالم.. ماذا بعد "لعبة الحبار"؟
الفنون الكورية تكتسح العالم.. ماذا بعد "لعبة الحبار"؟الفنون الكورية تكتسح العالم.. ماذا بعد "لعبة الحبار"؟

الفنون الكورية تكتسح العالم.. ماذا بعد "لعبة الحبار"؟

بعد عقود من الهيمنة الأمريكية على الفن العالمي في صناعة الأفلام والأعمال التلفزيونية واستيلائها على الساحة دون وجود منافس دائم يتمتع بالقوة نفسها، يبدو أن دولا أخرى بدأت تكتسح الساحة العالمية، مع الإقبال المتزايد على متابعة الدراما والسينما الكورية الجنوبية وفنونها بشكل عام.

موجة جديدة

ويبدو أن الأزمة العالمية الناجمة عن وباء كوفيد-19 والحجر الصحي على معظم البلدان، ساهما في بحث المتابعين عن مصادر أخرى لصناعة الأفلام والمسلسلات بعيدا عن شركات الإنتاج الأمريكية.

وتركزت الأضواء في الآونة الأخيرة على تألق الفن الكوري الذي اكتسح الساحة العالمية وتصدر شاشات السينما والتلفاز، تحت مسمى الموجة الثقافية الكورية (هاليو).



ملامسة الواقع

ومن أبرز أسباب نجاح الموجة الثقافية الكورية تقديم رؤية عميقة تلامس الواقع من خلال تعاطيها للقضايا اليومية وتسليطها الضوء على المواضيع الاجتماعية؛ من فقر وبطالة وتهميش لحب الذات، وتعزيز لمفاهيم الحب والصداقة.

ويبدو أن ملامسة الفن الكوري لهموم الناس جعل منه عابرا للجغرافيا وجذابا للمتلقين على مختلف توجهاتهم وانتماءاتهم، في ظل التركيز على التجارب والعواطف الإنسانية المشتركة.



مراحل التطور

في ستينيات القرن الماضي، أي بعد الحرب الكورية واتفاقية الهدنة الكورية لعام 1953، بدأ اقتصاد كوريا الجنوبية بالتعافي من جروح الحرب والمآسي والتراجع الاقتصادي، لنشهد فترة نمو وازدهار سريع عُرِف باسم معجزة نهر هان.

وبعد أن كانت صناعة الأفلام والدراما اليابانية مصدر إلهام لشركات الإنتاج الكورية الجنوبية في ثمانينيات القرن الماضي، ظهر في التسعينيات توجه جديد، استشعر الضعف لدى اليابانيين، وبدأ بالبحث عن مصادر إلهام جديدة.

ونجحت كوريا الجنوبية برفع القيود المفروضة على الواردات الثقافية، لتنفك عن المستعمر السابق (اليابان) عام 1998، وتقدمت وزارة الثقافة الكورية بطلب زيادة كبيرة في الميزانية، ما سمح بإنشاء 300 قسم للصناعة الثقافية في الكليات والجامعات في جميع أنحاء البلاد؛ وفقا لصحيفة نيويورك تايمز.

القوة الناعمة

وفي عام 1990 أوضح جوزيف س ناي، الباحث وأستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد الأمريكية، مصطلح "القوة الناعمة"، بأن تكون ثقافة الأمة وأيديولوجيتها تتمتع بعناصر جذابة، ما يدفع الآخرين على اتباعها بمحض إرادتهم.

والحقيقة أن مفهوم القوة الناعمة ليس جديدا تماما لكن ناي كان من أوائل الباحثين الذين توسعوا في تسليط الضوء على قدرة بعض الدول في استثمار عناصر الجذب الحضارية والثقافية دون الاضطرار إلى اللجوء للإكراه، بهدف الإقناع ونشر الدعاية والفكر الوطني؛ عبر الآداب والفنون، وأحيانا من خلال الدبلوماسية الرشيقة.

ولا يقتصر استثمار القوة الناعمة على الدول الكبرى؛ مثل الولايات المتحدة، إذ يشير ناي، المساعد السابق لوزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية في حكومة الرئيس الأمريكي السابق بل كلينتون، إلى أن عددا من الدول الآسيوية "تمتلك أيضا مصادر محتملة مثيرة للإعجاب؛ ذلك أن فنون وثقافات آسيا القديمة وأزياءها ومطابخها، كان لها من قبل تأثير قوي على أجزاء العالم الآخر طيلة قرون".

ويقول ناي في كتابه "القوة الناعمة" إن "دولا آسيوية صغيرة؛ مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وماليزيا وغيرها اتبعت إستراتيجية اليابان بشكل وثيق لاستهداف الصناعات الإستراتيجية لتحقيق التنمية وتمويل مشاريع كبرى والتصدير بقوة هجومية، وحماية صناعاتها الناشئة".



موسيقى

وازداد تطور الموجة الكورية في العقد الأخير، بعد انتشار موسيقى البوب الكورية، لتشتهر عالميا وتنجح في جذب الشباب واليافعين في أمريكا اللاتينية وشمال شرق الهند والعالم العربي.

وتتميز موسيقى البوب الكورية بمجموعة واسعة من العناصر السمعية والبصرية، ومن أشهر الفرق التي حصدت إنجازات كبيرة مع أول ظهور لها فرقة إكسو التي شهدت انقلابا جذريا مع ألبوم إكس أو، لتحقق مليون نسخة مباعة وتدخل قائمة أكثر الألبومات مبيعا في كوريا. فضلا عن النجاح اللافت لفرقة BTS الكورية.

سينما ودراما

ولا يخفى على متابعي السينما الأثر الذي تركه الفيلم الكوري النفسي Old Boy الصادر عام 2003، وجعل المشاهدين يقارنون بين عمق حبكته وبين الأفلام التجارية التي غصت بها السينما الأمريكية.

وفي العام 2019 كان صدور الفيلم الروائي Parasite بمثابة نقطة تحول جذرية محدثا نقلة نوعية في عالم الفن الكوري الجنوبي، بعد أن حصد 4 جوائز أوسكار للمرة الأولى في تاريخ كوريا وتاريخ هوليوود كفيلم أجنبي.



وفاز فيلم Alive في قائمة الأفلام الأكثر مشاهدة عالميا، كأول فيلم كوري على منصة نتفليكس بالمركز الأول بعد 3 أيام من عرضه عام 2020، على الرغم من ميزانيته المنخفضة.

وأصدرت الحكومة الكورية حديثا، تقريرا جاء فيه أن فيلم Parasite ومسلسل Crash Landing On You وألبومات فرقة BTS، كانت سببا في إعادة الألق لكوريا، إذ نجحت تلك الأعمال في خلق شعبية جماهيرية حول العالم عام 2020.

لعبة الحبار أنموذجا

ولابد من الإشارة إلى النجاح الكبير لمسلسل لعبة الحبار Squid Game، الذي تصدر منصة نتفليكس منذ عرض أولى حلقاته، منتصف سبتمبر/أيلول 2021، وأثار جدلا واسعا وتساؤلات عدة؛ حول كونه مجرد محاكاة درامية للعبة عنيفة أم أنه تجسيد مُرمَّز لجحيم الرأسمالية المعاصرة.

وفي "لعبة الحبار" كل شيء عار ومكشوف، لنشهد تجريد البشر من مشاعرهم وسيطرة غرائزهم، ويتضح أننا في العمق نحمل روح الغابة، ومازال قانون "القوي ينتهك الضعيف" هو القانون السائد.



رسائل مبطنة

وتكشف المقدمة البسيطة عن رسائل مبطنة وكأن التعقيد والعمق يكمن في خلق صور وحوارات بسيطة، لنستشف تركيز العمل على تعزيز غريزة البقاء، والتضحية بالعواطف والقيم الإنسانية، في إشارة إلى أننا نعيش في عالم يتبع مبدأ "إما أنت وإما الآخر، تحيا أو تموت، ولكي تحيا يجب أن تفوز ويموت الآخر".

ويجمع مصممو اللعبة أصحاب الديون والهموم والمآسي والمحتاجين في مكان واحد، للانخراط في ألعاب مختلفة، على مدى 6 أيام متتالية، ولكن قواعد اللعبة تنتهي إما بالفوز والبقاء وإما بالخسارة والموت. ولتصعد إلى مستوى اللعبة التالي عليك أن تختار نفسك أو قتل الآخر.

ونشهد حالة صادمة بعد معرفة اللاعبين بماهية اللعبة الخطيرة، بخسارة أول لاعب وإطلاق النار عليه، لتعم الفوضى أرجاء المكان ويخالف اللاعبون قواعد اللعبة لينتهي مصيرهم بإطلاق الرصاص عليهم بشكل عشوائي، إذ تتحول ساحة اللعبة لبركة دماء ومئات من الجثث.

ولاقت لعبة قرص العسل، إحدى ألعاب مسلسل لعبة الحبار، رواجا كبيرا على منصات التواصل، لتتصدر أشكال قرص العسل جميع المطاعم المشهورة، وتحتل أيضا منصة تيك توك ويصور أفراد أنفسهم وهم يصنعون قرص العسل ويفرغونه بالشكل المطلوب خلال الزمن المحدد، ما يعبر عن تأثر المجتمع بجميع فئاته العمرية والطبقية بالمحتوى المرئي المتصدر لنتفلكس ومنصات التواصل الاجتماعي كافة.

إسقاطات

ويتقاطع العمل مع الواقع بشكل كبير، فالحياة أشبه بلعبة إما أن تتقن قواعدها وتربح وإما أن تفشل في تطبيق القواعد وتخسر، إذ يسعى كثيرون إلى تجميع الثروة والفوز بالنفوذ، فإما أن تتنازل عن مبادئك وقيمك الإنسانية وتحظى بالسلطة والبقاء وإما أن تقرر الحفاظ على فطرتك الإنسانية وتحارب جميع أشكال الظلم والاستعباد.

وكأن اللعبة ترمي إلى حصر خياراتك؛ بين الالتزام الأخلاقي والبقاء، وبين مبادئك وغرائزك الدنيوية.

ويركز العمل على توصيف المجتمع الاستهلاكي المعاصر، من خلال تصوير اللاعبين المدينين على أنهم مجرد أحصنة رهان لدى أصحاب النفوذ والسلطة.

ويعزز العمل من قيمة المال، والنظرة الطبقية، فقيمتك بأكملها كإنسان تعادل ما تمتلكه، وستحظى بالاحترام والمكانة الاجتماعية والنفاق الطبقي كلما زادت ثروتك، فالمال بمثابة وسيلة وحيدة تمنحك بعض الميزات لتتخلى عن إنسانيتك وتفرغ غرائزك الحيوانية من خلال استعباد البشر والتلذذ بنشوة القتل واستغلال حاجة الفقراء وظروفهم الصعبة.

تساؤلات وجودية

ويطرح العمل تساؤلات وجودية عدة؛ فهل تندرج إنسانيتنا ضمن المبادئ المثالية في حالات الخطر؟ أم أن هناك استثناءات؟

ما الذي يرغم أحد في أن يذهب إلى الموت بمحض إرادته؟ هل الظروف والفقر وتدني المستوى المعيشي ذريعة تستحق أن نتخلى عن الحياة ونذهب إلى الموت بأقدامنا طواعية؟

ويحفزنا العمل على وضع أنفسنا في مكان الأفراد المهمشين، ومن اتخذوا قرار المغامرة بأرواحهم، لنتعرف على وجهة نظرهم الوجودية، ورغبتهم الجامحة في خوض غمار لعبة الموت، لنستشف الإقبال المتزايد على المقامرة بالحياة في واقعنا اليومي؛ وهو ما شهدناه حقيقة ماثلة في رحلات قوارب الموت للاجئين باحثين عن الكرامة والأمان.

فالحياة الواقعية للاعبين ليست بأفضل من خوضهم رحلة الموت، ومن يجرؤ على المغامرة، فهو فاقد لكل شيء، ولديه الاستعداد الكامل إما لخسارة ما تبقى وإما للفوز بكل شيء.

تقنيات متميزة

وبرزت الهوية البصرية للفيلم بشكل لافت، بانتقاء كوادر جذابة ومواقع تصوير تنوعت بين ساحات تتوسط الطبيعة تشبه الملاعب، وبين أماكن داخلية مظلمة تتواءم مع طبيعة اللعبة وقواعدها، لتتنوع الإضاءة بين ألوان فاترة ومعتمة وأخرى حارة تناسب المشاهد الدموية.



وجاءت حركة الكاميرا متناغمة مع الحدث واللقطات المتنوعة المأخوذة بشكل احترافي مميز؛ منها المنحدرة والدائرية، ما عزز تعلق المُشاهد بالفيلم بصريا، وأبعده عن رتابة ثبات الكاميرا، ومجاراتها لتسارع الحدث أو تباطئه.

واتسمت الموسيقى التصويرية للعمل بالجرأة والقوة، وكانت باعثة على التشنج والقلق، فأنت في ترقب دائم لمعرفة التالي، مع سكنات تفسح المجال للصوت البشري في لحظات العنف والصراخ الفزِع.

أصداء

وتصدر المسلسل قائمة أفضل 10 عروض تلفزيونية أسبوعية على منصة نتفليكس، وأكثرها مشاهدة على مستوى العالم في أكثر 90 دولة، ليكون بذلك أول مسلسل دوري يتصدر قائمة المنصة.

وصرح مسؤولون في نتفليكس، عقب صدور العمل بأيام معدودة، أن هناك احتمالا كبيرا بأن تصبح "لعبة الحبار" أكبر مسلسل على الإطلاق في تاريخ المنصة.

وأدى النجاح الكبير للمسلسل إلى إقبال هائل حول العالم على تعلم اللغة الكورية، إذ وصل عدد من يريدون تعلمها إلى قرابة 8 ملايين مشاهد، وذكر تطبيق "دولينغو" أنه حصل على زيادة كبيرة تجاوزت 76% في عدد المستخدمين الجدد الذين اشتركوا لتعلم اللغة الكورية.

بساطة الطرح

ويرى مخرج العمل هوانج دونج هيوك أن أحد أبرز أسباب نجاحه يعود إلى بساطة الطرح، وتقديم شخصيات مترابطة تخلق حالة تعلق بين المُشاهد والأبطال، إذ يركز على شخصيات واقعية نقابلها بشكل يومي، خاصة في مجال الأعمال.



احتراف

ومع كل عناصر الجذب المذكورة آنفا عن نموذج من الدراما الكورية (مسلسل لعبة الحبار) نلحظ النقلة النوعية للفن الكوري، من خلال الاعتناء بجميع التفاصيل؛ من انتقاء النصوص إلى الإخراج المبهر الذي يضاهي مثيله في هوليوود، مرورا بالحبكة المترابطة وقوة أداء الممثلين، ووصولا إلى الإنتاج الضخم.

ويبدو أن الاحتراف بات سمة أساسية في الفن الكوري الجنوبي، ويعود نجاح الموجة الكورية جزئيا، إلى تطور خدمات الشبكات الاجتماعية ومنصات الفيديو التي سمحت للمحتوى الكوري بالوصول إلى جمهور كبير في الخارج.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com