في المجموعة الشعرية "حارس الضحيّة".. خطى نحو تفكيك المتاهة

في المجموعة الشعرية "حارس الضحيّة".. خطى نحو تفكيك المتاهة

يبدو الجسد الإنساني عند الشاعر الفلسطيني عثمان حسين، بتكوينه، وثقله، ورؤيته، وأحاسيسه، مصارعًا دائمًا، مع وجوده في الحياة، وذلك في مجموعته الشعرية "حارس الضحية" التي يتناول خلالها، الهاجس الإنساني الوجودي على الطريق، بما تحمله من عبء ومشقّة. تلك المجموعة الصادرة عن دار الكلمة للنشر والتوزيع، 2023.

ويعمد عثمان حسين في نصوصه إلى التجريب مع الأشياء، والأفكار المتدحرجة، ليمنح وجوده حياة أخرى، باحثاً من خلالها عن تراكيب مُجدِّدة، تبطئ من سير المشهد، وتزيل عنه الغبش. فالسرعة في نصِّه غبش، والغبار غبش، والقناعات الثابتة كذلك، ويرى أن الجسد الإنساني، أبطأ، وأكثر هشاشة، من أن يحمل هذا كله، لذا كانت الضرورة للشعر.

الصور الشعرية في المجموعة تأتي ملهمة، محفزة للحواس، وللخوض في تجارب حسية، تزيد من تفكيك هوية الإنسان

وخلال قصائده، يشقّ الشاعر، اللحظة، ليؤجل رزمة الأحلام عاماً آخر، ويتذكر الخطى الأولى ليستعيد الدهشة والشغف. فيما ينزع أقدامه من وحْل الطين، ليتخلص من فكرة الجسد العالق في الماضي، باحثاً عن صوت جديد، غير مكرر، يأتي من الفضاء.

خطى جسد هش

وتمضي اللغة في قصائد الشاعر، مثل خطى، لجسد هشٍّ، إذ تنساب مع ثقل الأفكار، وتطير مع خفتها، وتتقافز خلال التجريب الوجودي مع العالم، فيما تتوقف عند الأسئلة الصعبة.

أما الصور الشعرية في المجموعة، فتأتي ملهمة، محفزة للحواس، وللخوض في تجارب حسية، تزيد من تفكيك هوية الإنسان، ونثرها، مثل كتلة غبار. ويتحقق في القصائد، البعد التلميحي، والرمزي، على مدار 149 صفحة من القطع المتوسط.

متاهة

فيما يتأمل عثمان حسين المتاهة، يلاحقها عبر الجسد المفكك، والنوايا الشيطانية، ليتغلب على الخوف من الثبات والحواجز.

وإن العمر عنده يتحدد في مربعات، لكل مربع فيه وعيه الخاص، لكنه يعبّر خلال قصائده عن اتساع المشقة واللهاث، مع مرور الزمن، وكأنما أراد أن يقول بأن المتاهة تكبر، كلما تقدم المرء نحو مربعه الأخير.

أما صفة التقافز الملازمة للكريات، التي يتناولها في شعره، فإنها تزيد من إمكانية تحقق اللعبة، اللعبة التي لا تتوقف مع العالم الملغّز، لجسد هزيل، لا يرجو إثبات وجوده، ولا أن يراه أحد، بقدر ما يرجو النجاة.

والسوء كمعنى، في نص عثمان حسين، هو الشبح الذي يقف فاتحاً ذراعيه في نهاية الطريق. فلا شيء يوقف سرعة العمر، فيمنع الاندفاع نحو الهاوية، أو نحو سلوك القبيلة المحيط بالإنسان، هذه الفوضى، وهذا التكوين المشتّت للجسد، كله يندفع باتجاه سوء الخاتمة.

يكتب عثمان حسين، في نص "حتى لو بدا يحث الخطى عن الأفول":

"تركت الكريات تتقافز بخفّة، صوب متاهة يصعب شرحها.

بعد الخمسين، تعرّفت على أبجديات القبيلة،

 وعدتني بالحماية من سوء الختام،

 وأنكرت كوابيسها، وعصاها التي لا تُشق".

كورال آهات

ويبدو المكان في نصوص عثمان حسين، "كأنفاس" للمشاعر، إذ تتحول الأحاسيس في يده ألواناً، يضعها بأنفاسه الظاهرة، كبعدٍ صوتي في النص.

حينما كان المشهد المأساوي، بحاجة لعين ناقلة، كانت الضحية بحاجة لحارس، ذلك الذي يقف على بوابة مكان مشتعل منذ سنوات

وتصبح مدينة غزة ـ مكان نشأة الشاعرـ موضوعاً شاعرياً، خارجاً من حقيبة "دانتي أليغييري"، بنزعته الهزلية، يقذف خلالها كريات فائضة حول المتاهة، فيجد أن للمدينة كريات أخرى، مغلفًا سطحها بالشوك، وهنا تصبح الصورة، متاهة تبتلع متاهةً أخرى، وتلتهمها.

إن غرابة الشعر عند عثمان حسين، تتحقق في صوتٍ يأتي في خلفية النص، إنه صوت الحزن والألم، أو صوت التجربة.

 ولربما نستطيع أن نسمع ترديد شعب بأكمله، خلف الكلمات، "كورال من الآهات"، حيث لا آلة موسيقية، تكفي لملء الفراغ، بين الأحداث المأساوية في مدينة حزينة، كـ غزّة.

وحينما كان المشهد المأساوي، بحاجة لعين ناقلة، كانت الضحية بحاجة لحارس، ذلك الذي يقف على بوابة مكان مشتعل منذ سنوات، وهنالك، ثمة حارس لا يستطيع أن يطفئ النار، أو لا يريد إطفاءها:

يكتب عثمان حسين:

"نهاراً، يبدّل الناس كوابيسهم بأخرى،

يتبادلون في الأسواق أوصافها،

ويسترخون في وسط البلد المشدود.

تلك الليلة لم تكن غزة مهيأة لأحد،

وحدها نامت على فراش الغضب،

تنهش روحها وتغفو،

وأنا حارس الضحيّة".

أبواب

ولا يكتفي عثمان حسين بتصوير المشهد، لكن يقوم بفلسفته، بنزعة تأملية، تجعل من حيز الشعر أكثر جمالاً.

إذ يبحث الشاعر دوماً عن المخفي، المخبّأ خلف الستار، ليكشف عن المعنى، ليس بدافع الفهم، وإنما بدافع التجريب، وكسب المزيد من الخطى.

في نصِّه، يبدو الإنسان حائراً في خطاه، لكنه يتابع، بهدف الوصول، لكن، هل من وصول حقيقي، والأبواب مغلقة! وإن افتتاح القصيدة، بواو العطف، عند الشاعر، يلمح إلى أن هنالك قصيدة قبلها، لم يستطع كتابتها، أو أن هنالك عالما آخر قبل هذا العالم، يرسل للشاعر أخبار الكارثة.

ويأتي الوصول عند عثمان حسين، برؤية الطرق المسدودة، والأبواب الموْصدة، ومشقّة الجسد، وعبء الوجود والثقل، متقاطعاً مع معنى الوصول لدى الشاعر اللبناني وديع سعادة، الذي يرى في تخفف الجسد من كتلته، وسيلة للوصول، لكنه وصول إلى حافة الفراغ.

 يقول وديع سعادة:

"يرمي قِطَعاً عن كتفه

قِطَعاً من جسده

من قلبه من عينه من رأسه من ذاكرته

ويمشي،

كلَّما رمى قطعة مشى خطوة

وحين صار فارغاً تماماً

وَصَل".

كرة صوف

ربما رغبة الشاعر في الخفة ـ كأن تكون أفكاره كرة صوف ـ تأتي بهدف امتلاك تكوين جديد لذاته، يتيح له إسقاط الحجر الكبير داخله

فيما يذهب عثمان حسين إلى ما خلف الوصول، ليتأكد من حامل السر، ويختبر قدرة الريح على حمل تعبه عنه قليلاً.

ولربما رغبة الشاعر في الخفة ـ كأن تكون أفكاره كرة صوف ـ تأتي بهدف امتلاك تكوين جديد لذاته، يتيح له إسقاط الحجر الكبير داخله، فتحمله الريح، وتدحرجه، من خلف الباب الموصد، ريح تمر من الشرّاعات، ولا يهم الشاعر، في هذا التجريب، البراعة أو الفشل.

يكتب عثمان حسين في نص "الأبواب المتروكة":

"وكلّما تذكرت أو قرأت مفردة الأبواب،

يتبادر إلى ذهني أنها موصَدة.

تتوسطها شرّاعات متساويات،

وما خلفها من ظلال إلا رياح قادمة.

أعلم انها أفكار تتدحرج،

تتشابك،

وتسقط ككرة صوف في جوف الكأس الفارغة.

النصف الآخر من الكأس ليس برهاناً دائماً على براعتي أو فشلي".

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com