في "قمر جديد من أجلي" للشاعرة مروى بديدة.. الوجود الإنساني برؤية ديكارتية
في "قمر جديد من أجلي" للشاعرة مروى بديدة.. الوجود الإنساني برؤية ديكارتيةفي "قمر جديد من أجلي" للشاعرة مروى بديدة.. الوجود الإنساني برؤية ديكارتية

في "قمر جديد من أجلي" للشاعرة مروى بديدة.. الوجود الإنساني برؤية ديكارتية

ترصد الشاعرة التونسية مروى بديدة عدة مظاهر للإنسان في الحركة والسكون، والموت والنوم، والحياة الاعتيادية.

وتصنع بديدة المفارقة بينها، مستنبطة العديد من المشاهد الشعرية، المكتنزة بالمعنى في مجموعتها الشعرية الأولى "قمر جديد من أجلي" الصادرة عن دار النهضة العربية 2021، ضمن سلسلة أصوات الشعرية.

وتوغل المجموعة في ألم الهجران، والوحشة، والتيه مع دائرة الأيام المستمرة في الحركة، وتتحدث عن تشقق الأحلام جراء التعب والخوف من المستقبل.

وفي مساحة ممتدة تخلط الشاعرة جملتها الفنية بتفسيرات الرغبة الإنسانية، وتعرّج على تفاصيل الجسد، وأساليب اكتشاف الآخر.

وتكثر بديدة من تكرار لفظة "الجثة" في قصائدها، ما يعطي جانبا من المشاعر "الكافكوية" والمناخ الموشح بالسواد داخل النص.

كما يبرز صوتها الشعري المزيد من المشاعر المنهزمة، التي يقابلها المرء بالعزلة والهروب من الجغرافيا الشاسعة للحياة، والاكتفاء بالوحدة الجسدية كأنها جثة مدقوقة بمسامير في مكان حيادي، وتبقى مفرغة من حواسها، ممسكة بخفتها الأخيرة.

الزمن والمعنى

ترصد الشاعرة صراع الزمن مع المعنى على مداد الحياة، إذ تفتح عدسة الشعر على التغير الناجم على الإنسان مع مرور الوقت، لكنها تستدرك وقوع المرء في حلقة التكرار والملل.

وتؤكد على أن مشوار الإنسان مع هذا العالم، في اتجاه واحد دون رجعة، بينما يستعيد الحزن ذاته في جسد آخر: "وأعرف أن الأحزان مهما كبُرت/ لها دائمًا الطعم المر ذاته".

ويأتي أسلوب بديدة الشعري معاصرا ممتلئا بالجمل الخاطفة، التي تفتح على دروب جديدة خلف ستارة الشعر.

ويمتاز شكل تصويغها للمعنى بالتجدد والحداثة ما بين الجملة التقريرية والتساؤلية، وكذلك التركيبات المائلة للتكثيف، لولا البدايات الكلاسيكية التي غالبا ما تبدأ بها الشاعرة قصائدها.



ويلاحظ تنوع النمطية الشعرية لدى بديدة من حيث الانتساب الشعري، فتكون في حين أكثر التصاقا بحالتها من خلال استخدام لفظة الأنا، وفي حين توسع دائرة المعنى بتقديم صيغة الجمع، ومناداة الوعي الجمعي الإنساني، خلال النص.

كما توزع المعنى بأشكال متمايزة إذ تستخدم أساليب النهي والنفي والتعجب وغيرها، خلال قصائد مقسمة إلى ثلاث حلقات هي: "حلقة أولى: أنهار تصب في جثة واحدة، وحلقة ثانية: جثث غير كاملة، وحلقة أخيرة: حين مسح الله كل الأسطر"، وامتدت على مدار 43 صفحة من القطع المتوسط.

امتلاء

تبرز الشاعرة خلال قصائدها قسوة الواقع، والإشكاليات التي يمر بها جيل 1990، من الشباب، حيث الأفق المنغلق، والبطالة التي تجتاح جيل الشباب في المجتمع العربي.

وتلمح بديدة إلى امتلاء العجز بين الشباب، وسيطرة الذكريات السيئة في وعيهم.، مُلمحة إلى اتساع الفجوة بينهم وبين الحياة التي يحلمون بها.

تلك العلاقة القائمة على الكسر والتشويه، والمودية إلى حالة العجز والتيه، في الآخر، ما يصنع جثة مهجنة بأحلام قديمة مسمومة.

تكتب الشاعرة:
"جبّار يكسر كواحلنا
إننا نصنع بديلًا لعجزنا،
بلا دراية ولا تمعن،
نجيد الفنون كلها ونسعى إليها.
أسماك هجينة تسبح في آفاقنا الغائمة،
تتغذى على طحالب الذاكرة السامة،
فتنمو نموًا مبهمًا وعجيبا".

وعلى الرغم من سوداوية انطباع الشاعرة عن الواقع، إلا أنها وبطبيعة الحيادي، المتصالح مع حوادث الواقع، تستقبل النهارات الجديدة، مسدلة الستار على المشهد القديم، لتبحث عن الضوء المبشر بحياة خالية من الألم والخوف والانكسار.

تقول:
"أنا معزولة ومطمئنة
أعبر الليلات بهدوء
أستقبل نهاري بضجر هائل يلازمني
كأنه قمر جديد يهل من أجلي".

شقيق النوم
تفارق مروى بديدة بين النوم والموت، وتعطي صفة الجثة غير الكاملة للنائم، حالة التوقف شبه الكامل هذه، عن الحس والتجاوب مع المتحركات، ووضع الجسد في حالته الدنيا من الحس وتشغيل الأفكار..

وتتفق في المعنى مع النمساوي روبرت شنايدر في روايته "شقيق النوم" في كف الموت، حيث يتوقف المرء عن أهم المشاعر لديه، بما فيها الحب، ويقول على لسان يوهانس: "أثناء النوم، الإنسان لا يحب لأنه في حالة موت".

ويؤكد ديكارت على توقف المرء عن الوجود نفسه حين ينام، فيتحول إلى جثة غير كاملة.

تلك اللحظات التي ينغلق فيها الأرشيف المحزن جهة الواقع، ويفتح صفحاته للأحلام، لتخلق عالما مغايرا، في الاسم والجسد والذكريات، ومفرغا من الخوف والخيبة.

ومن خلال أسلوبية النفي، والأمر، تحصر الشاعرة النيام في خانة المشهد المستحق للتأمل واستخراج المعنى الهيولي للكون.

تكتب بديدة:
"لن أجرح كبرياء أحبتي النيام
فلتناموا عميقا في اللحد.
جثث غير كاملة
وأرشيف موت أليم مسجل في الطب الجنائي،
لن أذكر أسماءكم،
أعلم أنكم الآن تخافون وتخجلون"

بطاقة بيضاء
وتصف بديدة طاقة الحب القصوى، حين يرفع المرء يده للحياة، للأحباب والأقرباء، بكف السلام، والبطاقة البيضاء المنفردة بالحب والراحة، من خلال لغة مكثفة وواعية بموسيقى الشعر، والصوت المبطن للجملة.

وتواصل الشاعرة البحث عن حالة براءة مع العالم، وحلقة متسعة مع السلام، تمثل قطارا آمنا نحو الخلود، بصوت شعري هادئ، فتقول:

"أنا مدينة لكم في كل الأحوال
إخوة صغارا وأمّا هائلة
وابًا أعرف فقط مقاس حذائه
الذي مشى به بعيدًا عنا
رافقتكم في الرحلات والحفلات والجنائز
لبست ستراتكم، وسراويلكم وجواربكم
أعرف جراحكم وخجلكم وجحودكم،
أعيش بالعطب ذاته، وأحبكم
أتمنى لكم ليلات هادئات
وصحة جيدة.
أتمنى لكم أحبة يخلصون،
إلهًا لطيفًا
لا يمتحن طاقتكم الضئيلة،
أتمنى لكم موتًا رحيمًا،
لا يؤلم أبدا".

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com