"غائبون لشراء بطاقات هواتف" للشاعر نصر شعث.. غصة الغربة والنوستاليجا
"غائبون لشراء بطاقات هواتف" للشاعر نصر شعث.. غصة الغربة والنوستاليجا"غائبون لشراء بطاقات هواتف" للشاعر نصر شعث.. غصة الغربة والنوستاليجا

"غائبون لشراء بطاقات هواتف" للشاعر نصر شعث.. غصة الغربة والنوستاليجا

يقدم الشاعر الفلسطيني المغترب، نصر جميل شعث العديد من المشاعر والتأملات، حول الحزن والأمل الخافت، والحنين إلى مسقط الرأس، بطريقة تبين غصة الغربة، والنوستاليجا، في مجموعته الشعرية "غائبون لشراء بطاقات هواتف" الصادرة عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر 2021.

إذ يكتب شعث عن السفر، كحاجة إنسانية لا مفر منها، وليس بصفته ترفيها، مبينا سطوة الزمن في ذلك. كما ويجسد مشاعر المرء في مخيمات اللجوء الأوروبية.

ويتناول الشاعر حال الوحدة الإنسانية على الرغم من الزحام حول الجسد. ويلمح إلى التهلكة البشرية مع القوارب، والغرق، في الهجرة عبر البحار.

وتحتوي المجموعة مشاعر العبء الثقيل على الدرب، عند الإنسان، بعدما كانت خفة الجسد هي الغالبة في وقت قريب اسمه الطفولة.

ويستعيد الشاعر المغترب ذكريات الطفولة مع الأم ورائحة الخبز، وإبرة الحياكة، وصنارة الصوف، والملابس القديمة المخزنة لشتاء آخر، وصبر أبيه وجلَده، ودمعته على العراق.

ويتضح تأثره بالبيئة التي يعيش فيها رغم الحنين الكثيف الدائم إلى وطنه فلسطين، إذ يكتب شعث عن الثلج والتصاقه بالحذاء، وعن مرح النساء وقت تساقطه، وتوصيفه لهيئة الجبال في قصائده، حيث كان يقيم في شمال النرويج وقت كتابة القصائد.

ويقسم شعث مجموعته إلى خمسة أقسام، يروسها بعناوين، ينتظم تحتها قصائد في اتجاهات فكرية مختلفة هذه العناوين هي "أعلى راية في المسيرة فصلتها لنا أرملة، غائبون لشراء بطاقات هواتف، ما عدت أعرف الأرض من كثرة القصائد، المياه أقرب الأمكنة إلى اليابسة، رثاء الخريطة".. وقد جاءت المجموعة في 148 صفحة من القطع المتوسط.

فيما تبدو اللغة عند الشاعر مكثفة مختصرة، تعطي الوميض المناسب للشعر، وتضيء على مساحات أكبر من الأفكار.

وفي صياغته يهتم الشاعر بترابط المعنى بين الكلمات المختلفة، بحيث يمكن اشتقاق معان مختلفة بما يرمز إليه من خلال الكلمات متفردة. كما ويقدم الشاعر قصائده بطريقة المشهد الشمولي والصور المجزأة من المشهد، ويهتم بتفكيك التفاصيل، وإعادة صقلها شعرا.

قصاصات



وتظهر جمالية فنية شديدة الخصوصية عند شعث، من خلال التقاطاته القصاصات الصغيرة التي يقطعها من الطبيعة حوله، ومن أصوات وحركات وحتى ثبات الأشياء من حوله، إذ يجيد في جملته المبسطة نقل المشهد "القصاصة" كما هو، إلا أنه يقوم بتركيب القصاصات على بعضها بطريقة ذكية، تصدر الإيحاء للقارئ، فيكون الشعر في نصه، كما لم يكن في الواقع، وكأنما طريقته في إنشاء الصورة مطابقة لقوله "عبرت فصارت طريق".

فالعلاقات المشتركة بين حقائب السفر والمسافرين، والابتسامات، والمظلات، وما بينها من خطوات نحو الغربة والوجع والحنين، تدفع نحو مشاعر مختلطة ترافق المسافر كما حقائبه تماما.

يكتب الشاعر:
"الحقائب
أكثر من المسافرين،
المسافرون
أكثر من ابتساماتهم،
المطر
يلقي قصائده على المظلات،
المظلات
لا تحمي الأحذية".

حيز جديد

ويبحث الشاعر في قصيدته عن مساحة أخرى للمعنى، تأويل جديد تقوم عليه تراكيب الأشياء، وهذا ما يصبو إليه الحيز الشعري، مادة مجددة، مخلوق جديد، حضر إلى العالم للتو.

إذ يتعمق شعث في الشكل القديم المعتاد للمشهد، ويقوم بقراءته بطريقته، ناقلًا إياه من خلال جمل شعرية مبسطة، ومقدمًا في الآخر سببية أخرى، دفعت المشهد ذاته للتشكل.

يكتب شعث:
"في عربة نقل الأثاث،
من بيت إلى بيت،
المرايا الصغيرة والكبيرة محمية،
بالجرائد القديمة،
وأغطية الشتاء،
كي لا تبرد،
وتنكسر
صورنا فيها".

فلا يكف شعث عن توصيف السفر والتنقل والهجرة، ويتداخل في قصيدته القلق مع الحزن، وكأنما ورق الجرائد هو التاريخ الذي كان واقعًا ذات لحظة، أما المرايا، فهي خزان صورنا القديمة، التي يحظر علينا الإمساك بها، لكننا نخاف أن تنكسر، فنغطيها بالورق.

قطن أبيض

ويربط الشاعر ما بين المفاهيم من خلال تصوير المشاهد المتعاكسة، حيث يسترجع ذكرياته مع الأرض المحتلة، ويتمنى لو أن هذه الأرض لزراعة القطن، وإنتاج الحياة، بدلًا من تلقيها الرصاص من مختلف الجهات.

ولا تكف القصيدة لديه عن تصدير الصوت والحركة والإيقاعات المتباينة حسبما يتطلب المعنى، فصوت الصخب الناجم عن المعارك، يعلو ويتعاظم، ويعبر عن ذلك الشاعر بسؤال العدد والكثرة في القتلى والكتب المهملة، لتحريك المشاعر نحو الشعور بمأساة المعركة.

كما ويتناول شعث النقيض عن الحرب، بالرمز إلى السلام من خلال الحمام الكثيف، الذي يأتي عوضًا عن الشهداء، سائحون جدد، يطوفون العالم بسلام هيولي، ويطعمون القمح للحمام.

عن هذا يكتب الشاعر في نص "القطن عقل خفيف لولا القلب":

"القطن عقل خفيف لولا القلب،
لحقن الدماء، الأرض التي تُدار فيها المعارك، صالحة لزراعة القطن.
من أكثر، القتلى أم الكتب التي لم تُقرأ؟
مختلفون كالجهات على الإجابة،
وفي كل جهة تتكاثر نفس الرصاصة.

الحمام المقيم في حركة السائحين،
يدور خلال رؤوسهم،
كأنه رؤوس شهداء لم يتمكنوا من أن يكونوا سائحين،
في أيديهم زجاجات مياه معدنية،
ويرمون القمح إلى الحمام البعيد".

قفل


ويحاول شعث أن يفك لوغاريتم المشاعر تجاه الزمن من خلال التأمل والتحليل، إذ إن شعوره في الغربة تجاه الزمن شديد التعقيد، ما بين الحنين إلى غزة مسقط الرأس، والحركة السريعة التي تمضي بها الحياة في أوروبا، وتكون الخلاصة أنه قفل مغلق على ذاته، ربما لا يشعر بوجودنا، ولربما ليس هو سبب الكبر والشيخوخة للإنسان، إلا أنه هو الجسد المحكم الذي نسعى لاختراقه، لنتخلص من فوات اللحظة وانقضاء الشعور وتحوله إلى ذكرى. ويرمز الشاعر إلى تفلت الزمن وخفته، بالفراشة التي تتطاير لتفك طلسمه، لكن هذه المحاولات كلها، دون جدوى، ويبقى للمرء الانتظار والخذلان كفعل نهائي.
يكتب الشاعر في هذا:

"الزمن قفل.
الفراشة التي حاولت حمل مفتاحه إليّ كادت أن تمحي في فضة المعدن الصقيل،
وحتى لا أشقى في انتظاري على عتبة الأمل،
وحتى لا تمحي الفراشة في ندم عجزها المضيء،
أسرعت في مغادرة الوميض الذي بللها،
وانفردت كدرفتي باب على عين القفل".

Related Stories

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com