"ثلاثة وعشرون عامًا في الوحل" لعثمان الدردابي.. الصورة الشعرية بمرآة عاكسة
"ثلاثة وعشرون عامًا في الوحل" لعثمان الدردابي.. الصورة الشعرية بمرآة عاكسة"ثلاثة وعشرون عامًا في الوحل" لعثمان الدردابي.. الصورة الشعرية بمرآة عاكسة

"ثلاثة وعشرون عامًا في الوحل" لعثمان الدردابي.. الصورة الشعرية بمرآة عاكسة

يطلق الشاعر المغربي عثمان الدردابي قراءات معاصرة للواقع الإنساني، ولتغيراته المستمرة، متضمنة مقاربات فنية ناقدة حول ذلك، بما يشمل تحولات المفاهيم البشرية، في مجموعته الشعرية "ثلاثة وعشرون عامًا في الوحل" الصادرة عن النهضة العربية، 2021.

ونجد في قصائد الدردابي موروث الإنسان التاريخي مع الحيرة والتشتت أمام أساليب الأشياء في التحدث عن ذاتها، وكيفية التقاط ومحاكاة ذلك، فيما يتعرض شعره، إلى صوت المرء الداخلي في تفسير الأحداث ومخاطبتها، متخذًا طريقة فهم فطرية، بشكل متعمد، من أجل الحديث عنها، ويعلل ذلك باكتساب دهشة متجددة في كل مرة يلمح أو يلامس ذاتًا أخرى.

شعر معاصر

وتبدو رؤية الشعر عند الدردابي معاصرة لتطور أدوات العالم، بغوصه في الفتات الذي يتكون منه المشهد الواقعي، ليصنع من خلاله تخييلًا مُناقشًا وموجزًا ومعمقًا، فتحاكي قصائد الدردابي صراع الإنسان الجواني مع الحزن، والفقد، والخذلان، والحيرة، والرحيل، وعلاقة الرجل بالمرأة، والحنين، ومخاوف العمر، كما يشرح قدرة الإنسان على بناء الخبرة التراكمية، والتحول المعرفي مع مرور الزمن.

فيما تسهم لغة النص الحيوية هنا، في تقديم معايير قصيدة النثر على شاكلات متعددة، حيث الأسطر المصففة، والفقرات الشعرية، والومضات المكثفة جدًا، المفصولة بأرقام أبجدية، هذه الثيمات جميعها، تضمنت تساؤلات شائكة، قائمة على التصوير الفني، والخيال الخصب، بقصائد متباينة الطول، امتدت على 90 صفحة من القطع المتوسط، ضمّنها الشاعر لغة القرب من الذات والتعمق فيها، باستخدامه ضمير الأنا المتكلم في الكثير منها.



فكرة بمحاور مختلفة

وبالتعمق في قصائد الدردابي، سترى كيف تُبنى اللغة لديه بطريقة التكثيف وطرد الزوائد، حيث يعطي المعنى بعدد موجز من الكلمات، وبلغة ذات موسيقى داخلية، نابعة من تناغم المعاني المطروحة، إذ يعمد الشاعر إلى شق التناقضات بين الأفكار، وتناول الفكرة من أكثر من وجهة، وجعل بوصلة المعنى تدور في أكثر من اتجاه، لتمكين الالتفاف الأكثر شمولًا حول النص، وطرح محاور مختلفة للأسئلة.

ويقدم الشاعر طرحًا فلسفيًا غنيًا بالموضوعات المشتقة من سلوكيات الأشياء من حولنا، فهو يصنع المحاكاة بين الشيء والإنسان، مستغلًا قدرة تأملية واسعة، تبني الحبكة الشعرية، التي يدور المعنى حولها.

ثيمات

أما من جانب التكنيك الشعري، يقدم الدردابي مساحات مختلفة ومتعددة من التشكيل والطرح، إذ يتلون النظم لديه، بحسب ما يتطلب المعنى، فمثلًا، يذهب مرات للمشاهد المختلفة في كل فقرة، كل مشهد يجيب على الآخر، ويتقافز المعنى بين المشاهد مثل بندول، مثلما قدم في قصيدة "ضياع".

وفي نمط آخر، يعمد الشاعر إلى صيغة أخرى تشبه المظلة، حيث تنطلق المعاني المختلفة من نقطة واحدة، كأنها العُقدة التي تنسدل منها الخيوط، وفي كل مرة ينشق معنى جديد، يثري المادة الشعرية ويمزجها بالعمق، وقد صاغ ذلك في نص "أقوال".



مرآة

وتتجسد حوارية البناء في قصائد الدردابي في مواطن متعددة، فهو يعمل بطريقة المرآة العاكسة للمشاهد، وفي لحظته التأملية مع الصورة، يعتمد على المفارقات بين التفاصيل، وما يمكن تخيله من خطاب ديمقراطي لكل جزء في الصورة الجماعية للنص، ففي نص "تلويح" ينظم حوارًا بين ذاته وميكانيكية الرحيل، عارضًا الجدل القائم على التكامل للحظة الشعرية، ومن ثم يقوم بوضع صورة منسحبة للنص، كأنما هو تتر لنهاية فيلم سينمائي درامي.

وقول الشاعر:"ألوّح للرحيل، كمن يمسح الغبار الشاهدة، يلوح لي الرحيل، أنا اسمي المكتوب على الشاهدة، أينما ألتفتُ، ثمة من رحلوا، تاركين خلفهم غبارًا، من أثر التلويح".

ما بعد المعنى

فيما تحمل رؤية الشاعر ما هو أبعد من النص، فيمكن مد يد طويلة واكتشاف ما يرمي إليه المعنى، وتذوق معرفة توازي الجمالية التي يسعى النص لرسمها، ففي نص "ورقة" نجد بعدًا موازيًا لحركة الشاعر البسيطة مع النص، بسلاستها اللغوية، حيث نرى، في وجه آخر للنص، أولئك المحجوزين دومًا في جهة التعب والهلاك، فتلهم القصيدة إلى أنه حين ينطلق صراع القناعات، يتناحر الأقوياء ذوو الأيديولوجيات المتعاكسة، وفي الغالب هم الأقل خسارة، بينما يكون ذوو العمق والوعي الأبيضين، الأكثر خسارة في الحرب الدائرة تلك، هذه الإسقاطات، يصوغها الشاعر نقلًا عن صراع صامت يحدث في دفتر صغير، نخط نحن القناعات عليه، بغرض الحفظ، لا أكثر.

ويكتب الشاعر:"ورقة، تعطي ظهرها للأخرى، وجه الورقة البيضاء، حتى لا ترى كل واحدة، ما يكتب على صدر الأخرى، ما ذنب الورقة البيضاء/الفارغة، حين نمزق الجهة المكتوبة من الورقة؟".

معانقات

أما الحاضر الأكثر وجعًا في نصوص الدردابي، فكان أثر الحرب مع الذاكرة، المواقف العالقة في الذهن البشري، جراء الموت السهل، ولكن الشاعر هنا يلجأ إلى جانب أكثر إستراتيجية في مدار الحرب الساخن، ليلتقط العلاقات الغائرة بين الأجزاء المكونة للمشهد، أيًا كانت صفتها، وتكوينها، سواء أكانت جمادًا أو كائنًا حيًا، فكل الصورة لديه قابلة للتركيب والمعالجة، كما مونتير محترف.

وفي نص"جندي مبعثر" يكتب الشاعر "الزناد إصبع مائلة مقلوبة، الإصبع المائلة زناد مقلوب، الموت، إصبعان مائلان تعانقا".

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com