هل انتهى دور القارئ النموذجي الذي أراده أمبرتو إيكو؟
هل انتهى دور القارئ النموذجي الذي أراده أمبرتو إيكو؟هل انتهى دور القارئ النموذجي الذي أراده أمبرتو إيكو؟

هل انتهى دور القارئ النموذجي الذي أراده أمبرتو إيكو؟

تمتاز عملية الكتابة بالقدرة على مشاركة الأفكار من جانب، وصنع العلاقة بين المؤلف والقارئ من جانب آخر، عبر النص، الذي يعد بعد إطلاقه للعلن، مسرحًا يجمع كافة العقول المارة عليه.

ومن البديهي أن مستوى فهم وإدراك اللغة، وما يتوارى خلفها، يختلف من شخص للآخر.

محاكاة متخيلة

يقوم هذا الفهم على عدة معايير مؤثرة في علاقة القارئ بالنص المكتوب بمجرد بدء قراءته.

ودومًا، يطمح الكاتب خلال كتابته، لسلوك من المحاكاة المتخيلة بين النص والقارئ، يضعه في مخيلته، وهو ما أطلق عليه الكاتب والناقد الإيطالي أمبرتو إيكو "القارئ النموذجي".

والقارئ النموذجي حسب إيكو، هو "قارئ نوعي يتوقعه النص، باعتباره محفلًا للتعاون"، أي يتغلغل في تفاصيل النص الواضحة، ويبحث عن التفاصيل الخفية، تلك التي يضع الكاتب في ثناياها أهدافه من الكتابة، ويترسب فيها مخزون الرؤية لديه.

غابة النص

ويرى إيكو أنه من الضروري أن يضع الكاتب معاييره الخاصة وقواعده في العمل، تلك الخطة التي يتمكن القارئ من السير عليها، حتى يغوص في المناطق المعتمة للنص، والذي وصفه إيكو بأنه "الغابة" التي يتوجب على القارئ المضي فيها، دون مخاطر.

إيكو والأدوات الرقمية

قد تكون هذه الأطروحة النقدية التي سعى إليها إيكو، صالحة في عصره، لكن هل بقيت صالحة للتطبيق والمعاينة في عصر التكنولوجيا؟

يبدو ظاهرًا أمامنا اهتمام الكثير من المؤلفين لوضع كتاباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لكسب المزيد من القاعدة الجماهيرية، في وقت أصبح العالم الافتراضي، يشكل هوية اجتماعية لا يمكن التخلي عنها.

مرور خاطف

اعتاد القارئ على مواقع التواصل الاجتماعي على تمرير إصبعه على الشاشة الصغيرة للهاتف النقال، بهدف القراءة السريعة، ومطالعة الأخبار، والقليل من منشورات الأصدقاء، وبعض من يتابعهم من المؤلفين والمفكرين.

وبين هذا كله، قد يكون مرور النص المكتوب من الكاتب مرورًا خاطفًا، يتحدد مدى تأمله، تبعًا للحالة للمزاجية للقارئ، الذي في الغالب يكون مشغولًا بأمور أخرى.

وهنا لا يلقى النص التأمل المتوقع من قبل كاتبه، فيكون هذا القارئ حسب رؤية إيكو ليس نموذجيًا، وهو بطبيعة الحال القارئ الفعلي، الذي خرج عن توقعات الكاتب.

مسافة بعيدة

إن تكرار عادة القراءة السطحية للمنشور، جعلت القارئ الفعلي يقف في مسافة بعيدة عن النص، وعن هدف الكاتب وفق إيكو، فالكثير من المنشورات القيمة، يضعها مؤلفون ومفكرون على مواقع الفيسبوك وتويتر وغيرها، لكن لا تجد بالفعل التفاعل المأمول من جمهورهم وأصدقائهم، ويبقى النص بتعليقات قليلة، ولايكات معدودة..

في حين أن نصوصا أقل قيمة معرفية، وتغلب عليها السطحية تأخذ تفاعلات أكبر، فهل يغيب القارئ النموذجي عن مواقع التواصل الاجتماعي أم يتواجد بشكل نادر؟ وماذا كان سيكون رد فعل إيكو لو انخرط في هذا المدار الافتراضي؟

من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، صار عدد القراء الفعليين أكثر، لكن عدد القراء النموذجيين الذين أرادهم إيكو صار أقل.

فيلم كوميدي يشاهده حزين

ويطرح إيكو مثالًا خلال كتابه "تأملات في السرد الروائي" حول قدرات القراء المختلفة خلال قراءة النص، ويخضع ذلك لظروف مختلفة، من الحتمي أن تؤثر في فهم وتأويل النص، فيسأل: كيف يكون حال القارئ حين يشاهد فيلمًا كوميديًا في أشد لحظات الحزن؟

ويجيب مستدركًا: "من الطبيعي أنه سيفشل في التفاعل مع المشاهد كما يتوقع مخرج العمل.. أليس هذا يشبه ما يحدث مع الجمهور بنفسياته ومزاجاته المختلفة، حينما يشاهد المنشور على الفيسبوك أو تويتر؟

ويؤكد إيكو أن ما يحدث مع مخرج المسرحية هو نفسه ما يحدث مع الكاتب، فيتوقع من القارئ المزيد من التفاعل مع النص، بحيث يكون نموذجيًا في الفهم والإدراك الحسي، وهذا ما يفرق به إيكو بين القارئ النموذجي والقارئ الفعلي..

الفعلي هو أنا وأنت وغيرنا من الناس، من يقرأ النص على عجالة، ولا يعطيه حقه في التعبير عن نفسه، أو يتحقق وجوده عبر المحاكاة العقلية المتعمقة.

تجربة فعالة

كان إيكو يريد علاقة متينة بين النص والقارئ، بحيث يكتشف القارئ ما لا يتوقعه في ذاته، وهو ما تطمح إليه عملية الكتابة على مر العصور، ذلك التفاعل بين عقلين وما يتلامس بينهما من مشاعر، تتحقق فاعليتها عبر التجربة ونقلها.

يقول إيكو: "القارئ النموذجي لا يحضر بصفته الصوت الذي يشارك ويتفاعل مع النص فحسب، إنه يولد إلى حد كبير مع النص، فهو العصب الاستراتيجي التأويلي للنص".

ويوصف إيكو هذا التفاعل بأنه ضرورة تجعل من النص أكثر حياة، وتنقذه من الموت، من خلال انتقال القارئ من دور مشاهد المسرحية، لمشارك في تقديمها، كأنه أحد أبطال العمل، يتنقل على المسرح حيث يشاء، وهذه العملية تزيد قوتها "كلما احترم القارئ قواعد النص" التي أرادها الكاتب خلال تأليفه.

ختاماً، إن وصول النص للقارئ، بحسب إيكو، يتحدد بكم ونوعية العلاقات المبنية معه، وهي ليست بالضرورة أن تتطابق مع النص وأفكاره، وإنما علاقات يصنعها الذهن بطريقة تجعل النص يكشف عن روابطه المتعددة الممكنة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com