هل تُكتب الرواية دون خيال؟
هل تُكتب الرواية دون خيال؟هل تُكتب الرواية دون خيال؟

هل تُكتب الرواية دون خيال؟

على مدار عصور طويلة، كان الخيال من أهم الركائز التي اعتمد عليها الأدباء والكتاب والمفكرون في تجسيد الحدث الواقعي البشري، وإعادة تحويله من الطبيعة، ليكون في قالب جديد، يخضع لرؤية المؤلف، بحيث يحدث التفاعل الذهني والفكري مع المتلقي.

وطوال تلك العصور بقي الخيال مبعث الإدهاش والتجديدية والخصوصية للعمل، يمنحه بصمة خاصة، تتيح للقارئ الاستغراق والسفر بعيدا في الشخصيات والأحداث، عبر السرد والوصف ولغة الكاتب.

روايات مؤثرة

وتعد رواية "مئة عام من العزلة" للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، من أشهر الروايات الخيالية التي تركت أثرًا كبيرًا في المشهد الثقافي العالمي، وفتحت الباب أمام التحليل الاجتماعي للذات البشرية، واعتبرت مثارًا بحثيًا لجأ إليه النقاد والباحثون منذ عقود طويلة.

اعتمد ماركيز خلال البناء السردي لعمله، على التقاط الجزئيات الصغيرة من الواقع، ومن ثم البناء عليها، من خلال الدمج الفاعل بين الأحداث والخيال، ليصنع رواية الواقعية السحرية، التي تستعرض آفات المجتمع البشري، وتقدمه في قالب فني أدبي، يثير التساؤلات والتحليلات والتجارب الفاعلة لدى الوعي الإنساني.

وعربيا، نجح الكاتب أحمد مراد من خلال رواية "الفيل الأزرق"، في تجسير العلاقة بين الواقع والخيال، وتقديم خليط فني أدبي، امتلك حس السينمائية، وهو ما أتاح للعمل أن يتحول للسينما فيما بعد.

كانت الواقعية السحرية في نص أحمد مراد، كاشفة، متدفقة، عبر الاستيراد من الواقع، فالشخصيات بنزعاتها المتباينة، والأحداث، كانت جميعها تركب ركب الخيال، على الرغم من ارتباطها الوثيق بالواقعي.

وتمكن مراد من تفكيك الواقع، وإعادة هيكلته، من خلال سرد لغوي، بأفكار تخييلية صادمة خلال عمله، ما أوجد له مساحة واسعة في المشهد الثقافي والاجتماعي العربي.

بلا تجميل

لكن الكاتب والناقد الفرنسي إميل زولا (1840-1902)، يرى عكس ما يثار حول الخيال والرواية، حيث يقر بأهمية تثبيت التجربة الواقعية في العمل الروائي، دون الخروج إلى فلسفات التخييل والحياكة المزينة للحدث عبر الخيال.

واعتبر زولا أن الواقعية في السرد، هي من تنقل صرامة الحدث، وفجاجته، وتعرضه حدثًا صارخًا، لا يحتاج لتجميل خيالي، كي يخاطب الذهن البشري، بل يتسرب كما هو، حادًا دون مواربة، كأنه محضر قضائي يستخدمه القاضي في المحكمة للحكم الصريح المطلق على الحدث، ويرى أن ذلك الدمج هو بمثابة تحريف لواقعية ومشاعر الحدث.

ويستشهد زولا بالكاتب الفرنسي "أوتويه دي بلزاك" في أعماله الواقعية مثل رواية "الأب الخالد" التي قدم فيها شخصية الأب "جوريو" أبًا خالدًا يستمر في تقديم العطاء، والتضحيات، وإنكار الذات من أجل الأبناء، وكانت الأحداث ناقلة لصورة الأب، في نفيه لأنانيته، لتمتلك الرواية الحس الواقعي دون الميل للخيال والإغراق فيه.

شروط متغيرة

وينتقد إميل زولا الخيال الروائي، قائلًا: "في الماضي، كان أجمل ثناء يمكن أن نخص به روائيّاً يتمثل في القول إنه يتمتّع بمخيلة. أما اليوم فيعد مثل هذا الثناء انتقاداً. ذلك أن جميع شروط الرواية قد تغيرت. ولم تعد المخيلة هي الخاصّية الرئيسة للروائي".

ويمجد زولا في العديد من الروايات الواقعية مثل مدام بوفاري للكاتب الفرنسي "جوستاف فلوبير"، وكذلك الرواية التاريخية "الأحمر والأسود" للكاتب الفرنسي "ستاندال".

مرض نفسي

ولطالما بقي زولا يحمل الهجوم الحاد على مخلقي السرد التخييلي، معتبرا إياهم مزيفي الواقع، بما يقومون به من طرد للحس الواقعي للعمل، حيث يقول إن "الموهبة لا تنبع مما يتخيله الروائي، بل من قدرته على تصوير الطبيعة بقوة".

ويمكن تفنيد مقولة الطبيعة هنا بأنها رصد لأحوال المجتمع والناس والظواهر بأكبر قدر من الموضوعية، بحيث تكون الرواية أشبه بدراسة، حتى أن إميل زولا يرى أن مفردة الرواية غير دقيقة وتعبر عن المخيلة والخرافة واختلاق القصص، ويرى أن من الأنسب كتابة كلمة "دراسة" على أغلفة الروايات، غير أن مساعيه في ذلك لم تفلح؛ فلكلمة "الرواية" تأثيرها الجبّار وبقيت خالدة على مر العصور.

ولطالما سخر زولا من أولئك المؤلفين الذين يبنون كافة تفاصيلهم السردية في الرواية على الخيال، معتبرا إياهم مرضى يحتاجون للعلاج النفسي.

دعوة للتغيير

وبقي زولا خلال حياته داعيًا إلى التغيير والتعديل في ميثاق الرواية العالمي، معتبرًا أن تصنيعها يجب أن يتمسك بجبلة الواقع وطينته، وبحسب رؤيته هي بذلك تكون قد أوصلت الإنسان للمعرفة التي يحتاجها لا التي تخدعه.

ويصر زولا في مقالاته النقدية، على أن الخيال هو مكانة الأدب، وباعد بينه وبين الإنسان، من خلال الخداع المستمر للمشاعر عبر الخيال، الذي يؤدي إلى تمويه الفكرة وغبش رؤيتها الصحيحة، كما جاءت في الواقع.

غربة

ويطالب زولا بأن يتم تمجيد الحس الواقعي في البناء السردي، كما كان يتم مع التخييل، حيث يقول "مثلما كان يقال في الماضي عن الروائي يملك مخيلة، أطالب أنا اليوم بأن يقال إنه يمتلك الحس الواقعي، ولسوف يكون هذا الثناء أكبر وأكثر عدلاً".

ويرى زولا في نفس السياق، أن إشاعة مساحة الاختراع في الأدب، تجعل الواقع أكثر غربة عن الإنسان، وتؤجل، بل وتبدد عملية التماهي بين السرد والذات، معتبرا أن النظرة بوصفها ناقلا لشكل وطبيعة الحدث من الواقع، أقل شيوعا من الاختراع.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com