"سيرة الأعرابي" لمحمود وهبة.. الواقع العربي في مرآة الشعر
"سيرة الأعرابي" لمحمود وهبة.. الواقع العربي في مرآة الشعر"سيرة الأعرابي" لمحمود وهبة.. الواقع العربي في مرآة الشعر

"سيرة الأعرابي" لمحمود وهبة.. الواقع العربي في مرآة الشعر

تحمل المجموعة الشعرية "سيرة الأعرابي" للشاعر اللبناني محمود وهبة، صوتًا متعمقًا في الوجود الإنساني، وتأتي، عبر روحها الفلسفية، بتأويلات مختلفة، للعديد من المشاعر البشرية، مسلطة الضوء على العلاقات مع الواقع الذي يعيشه الإنسان العربي.

ويقدم وهبة في المجموعة الصادرة عن دار النهضة العربية 2022 نموذجًا شعريًا غائرًا في النفس، يتأمل الأحداث، ويحولها إلى إضاءات عبر اللغة والطريقة الشاعرية.

وعزز ذلك عبر اللجوء إلى القصائد القصيرة والمقسمة، في حديثه عن المفاهيم والمشاعر الذاتية، وعبر القصيدة الطويلة، المقسمة أيضًا لمقاطع، في حديثه عن المشاعر الجمعية مثل نص "مفاصل من سيرة الأعرابي".

 



نزعات
وفي مجموعته، يتناول محمود وهبة العديد من التفاعلات البشرية مع الأحداث من حوله، فيفند صوت الذكرى داخل الإنسان، وآثارها التي لا تتوقف: "للذكرى حبال وضجيج وأعداء / للذكرى ضحايا / كنت ضحيتها الأولى /للذكرى يد وأصابع /للذكرى طرق شتّى / للذكرى هذه الفاجعة التي تركتها في بيروت / للذكرى كلام وصمت".

كما ويبين الشاعر تلك الهوة داخل الإنسان التي تمتلئ بالدموع والألم جراء قسوة الواقع، وصدمات الحياة فيكتب: "الدموع رصيدنا / نحن الضعفاء /:نحن الذين لا نملك شيئًا".

ويظهر وهبة أثر المعيشة على الإنسان مع مرور الوقت، والأسى الذي يتخلل ذلك: "عقارب الساعة ترسم تفصيلًا على الوجه / السنة جرح / والثانية خِضاب أغبر".

ويوضح كذلك نزعة الإنسان الذاتية الخوف والتأثر بالأحداث الآنية أو من تكرار حالة الفراغ: "أدرك الآن ماذا يفعل القلق بنا كل مساء".

تأريخ
وفي قصيدته "السِيريْة" يلخص الشاعر وفق رؤيته الحال العربي من الناحية الاجتماعية والبنيوية، إذ يأتي بصوت تاريخ بطولات العرب من الماضي، ويستحضر الأعرابي كرَمز على التاريخ، ويستخدمه كمعلق على السيرة بِرمتها، حيث يستخدم الأدوات الحوارية والتقريرية في قصيدته، محمًلا الصوت الأعرابي ميكروفون النقد والحسرة على حال المجتمع العربي من الضعف والضجيج والموت والتخاذل، وغياب المبادئ وضياع المفاهيم، ففي نص"مفاصل من سيرة الأعرابي" الذي يحمل بذرة عنوان المجموعة: "سيرة الأعرابي" يُحوّل محمود وهبة حواره الداخلي مع الشعر، إلى حلقة حوار جماعية مع الجمهور، بمقارنة ماضي وتاريخ الأمة، بالحاضر الذي اختلطت فيه قضايا الأمة والحق والنضال واليقين.

إذ يكتب الشاعر:
"في زمن صار غابرًا الآن،
حدثنا الأعرابي:
لا شيء جديد..
الذي احتضن الماء ذات مرة،
كان مجرد غربال،
والغربال أجوف.
الرصيف مذ تعقب خطوات الراحلين،
لم يعد شيئًا،
البتة"؟

انقلاب المشهد
وفي مربع آخر، اشتكى الأعرابي كما أوضح الشاعر في نصه استهجان الأعرابي من الضجة المصاحبة للحياة، وضياع المفاهيم والنظام الاجتماعي، والفوضى في المجتمع العربي، فتساءل: "لمَ كل هذا الضجيج خلف الباب؟"، لكن سرعان ما ينقلب المشهد الضاج إلى صمت كبير، في دلالة وترميز يقصدهما الشاعر، بأن الانطباع الأخير للمار على هذا الحشد من الناس، لا يعدو كونه مارا في مقبرة، حيث صمتها المكتمل، وفراغها من الحياة، ويدلل على هذا في قوله "التماس شفاعة من ميت، لا يرجى".

وهذه المفارقة تحمل بعدًا حسيًا فنيًا، يعزز من قدرة الشِّعر على الاقتراب أكثر من ذات المرء، ومحاكاة وعيه.

حيث يُكمل الشاعر:
الأعرابي مشى وحيدًا
بين قبور فارغة،
وحده الصمت اخترق باب جسده،
ودخل خلسة،
كان يجوب المفارق،
يؤرخ للحكاية ويرتجل:
كنا هنا
كان للكلام معنى
وللصوت بريقًا
وللأولاد رغبتهم في اللعب والمشاكسة".

مقص
فيما يستخدم الشاعر في نصوصه أدوات فنية ذكية، بهدف زيادة شغف القارئ في تفكيك النص، وكذلك بهدف صناعة الحراك الفكري مع اللغة، حيث اعتمد في أكثر من موطن، طريقة المقص، من خلال تقطيع القصيدة إلى مقاطع قصيرة، حملت في كل منها فكرة مكملة لرؤيته الشعرية، هذه الشذارات الشعرية، التي انبثقت في الماضي عبر الشاعر الألماني غوته، لكنها تعززت في الشعر المعاصر، وكأنه أوانها الحقيقي، من حيث ميل الإنسان المعاصر للسرعة في كل شيء، بفعل أدوات العصر التي تعمل على ترفيه الإنسان.

ولكن بتجميع كل مجموعة شذارات عند وهبة نجد تكاملًا في رؤيته للمشاهد جميعًا.

كتم
كما ويحاول وهبة استخدام أدوات تشويق أخرى مثل كتم الكلمة لحظة النطق، وهو ما يحققه الشعر أيضًا، بقدرته على التكيف مع طبيعة الفكرة، فيُسيّر الشاعر الأمور وكأن الأعرابي يريد نطق كلمة ومن ثم يقطعها أو يكتمها، بوضع نقاط مكانها، وهو ما يثير مخيلة القارئ، ويزيد حراك وتأويلات النص، فيكتب:"قاب قوسين أو أدنى / نطق الأعرابي: بيدي أحمل بشائر الـ..".

وفي نص "خلف من سقط وحيدًا على السياج" يسترجع وهبة حس الإنسان العربي تجاه فلسطين المحتلة، من خلال إطلاق مشاهد من النكبة الفلسطينية 1948، وكأنها حدثت للتو، مؤكدًا بأنه في لحظة ينقلب حال الصمت تجاه الأمور، وتكون النكبة حادثة الآن.

ويستخدم الشاعر رموز القوة والحراك في شعره، عبر تمرير كلمة "الريح"، فهي المحركة للأشياء والمقتلعة للثوابت والمركونات.

سجن
كما ويعبر عن حالة السجن والحصار، التي تحياها فلسطين، من خلال استخدام رمزية السياج، ويقول: نقف خلف من سقط وحيدًا على السياج"، ويؤكد في ختام نصه على عدم النسيان بالنفي القاطع، وبتكرار النفي:"لم ننسَ، ولن ننسَ".

يكتب الشاعر في النص:

يبدأ كل شيء على حدة،
تبدأ الذكريات بالخروج من المحفظة،
يبدأ الأمر بشيء من الكذبة الخالصة.
...
تبدأ اللعبة من جديد
الريح تهشم وجهَ غاصب،
كأنها رغوة مفتوحة على البحر،
وكأن الزبد لم يغادرها لبرهة،
كأن لا شيء حدث،
ولا وقت مر على النكبة.
إنها الذكرى، النساء مجتمعات في الحجرة،
والقذائف تهطل على بشر نائمين".

واشتملت المجموعة التي جاءت في 46 صفحة من القطع المتوسط، على بعض قصائد الرثاء والتذكر لبعض الشخصيات المثقفة اللبنانية، مثل الكاتب والناشر الراحل لقمان سليم، مبينًا مشاعر الحسرة على فقدانه، وكذلك يكتب عن الشاعر الراحل أنسي الحاج، مؤكدًا على نقائه كإنسان وكقامة كبيرة.

كما ويكتب لسهل الخيام في "مرجعيون في لبنان" مبينًا رونق الحياة فيه.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com