احتراف الكتابة الإبداعية في العالم العربي.. بين "مظلومية" الكتّاب ومعاناة دور النشر
احتراف الكتابة الإبداعية في العالم العربي.. بين "مظلومية" الكتّاب ومعاناة دور النشراحتراف الكتابة الإبداعية في العالم العربي.. بين "مظلومية" الكتّاب ومعاناة دور النشر

احتراف الكتابة الإبداعية في العالم العربي.. بين "مظلومية" الكتّاب ومعاناة دور النشر

يواجه رواد الكتابة الإبداعية في العالم العربي جملة ظروف تقف عائقا أمام احترافهم التأليف، حيث يلجأ كثير منهم إلى مزاولة أعمال أخرى بعيدا عن مجالاتهم الإبداعية بحثا عن الأمان المادي في منطقة تتسم بتعاقب الأزمات وقسوتها.

ويعود ابتعاد الكتّاب عن الاحتراف إلى مجموعة أسباب، منها خارجية متعلقة بطريقة تعاطي دور النشر العربية، وآليات تسويق المحتوى الأدبي أو العلمي، وأسباب داخلية متعلقة بالمبدع، وعلى رأسها المماطلة والتسويف والرضوخ المَرَضي للإحساس بالمظلومية.

ويؤدي تضافر تلك الظروف في عالمنا العربي إلى تحول الكتابة الإبداعية إلى نوع من الرفاهية، ويتخذها بعض الكتّاب أيضا هواية ثانوية أو وعاء لتفريغ التجارب العاطفية والاجتماعية في حالة من التأمل والسكون وترقب الإلهام.

بدائل مادية

ونتيجة للظروف المادية الصعبة، وغياب الرعاية والاحترافية، يلحظ تحول كثير من رواد الكتابة الإبداعية، إلى مهن أخرى، مثل الترجمة والتعريب، أو التدقيق اللغوي، وكتابة المحتوى في مواقع التواصل الاجتماعي، ليؤمّنوا الحد الأدنى للأمان المعيشي، ومع مرور الأعوام يصبح الجانب الإبداعي أمرا من الماضي.

ويتخذ بعض الكتّاب مجالا أكثر التصاقا بالمحتوى الإبداعي، ويلجؤون إلى احتراف العمل الصحافي وكتابة السيناريو ومقالات النقد الأدبي في الأقسام الثقافية لوسائل الإعلام الناطقة بالعربية، بانتظار تحسن الظروف والفرصة المواتية للعودة إلى الكتابة الإبداعية، من شعر وقصة ورواية وغيرها من صنوف الأدب.

كل ما سبق يعزز إحساس الكتّاب العرب بالمظلومية، فالمقارنة ماثلة دائما في أذهانهم، بين ظروفهم القاهرة، والتسهيلات التي يحظى بها أمثالهم من الكتّاب في دول متقدمة.

هواية

وفي حديث خاص لـ"إرم نيوز"؛ قالت الكاتبة السورية جنان وكيل: "اليوم أصبحت كتابة المحتوى مهنة أساسية بالنسبة لرواد الآداب العربية ليتحول بعضهم إلى مشاهير ومؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي، التي وجدوا من خلالها منصة لتقديم نتاجهم إلى الجمهور".

وأضافت: "بالنسبة لي كهاوية، ليس هناك دافع ضروري يلزمني باعتبار الكتابة أولوية، بسبب مشاغل الحياة واحتلال الحياة العملية والمادية المرتبة الأولى، فلا يمكن أن تقول لشاعر جائع أن يكتب قصيدة بدلا من العمل مقابل أجر".

تسويف

ولا تقتصر المعوقات على الظروف الخارجية، إذ يركن كثير من الكتاب الشباب للمماطلة والتسويف وتأجيل الكتابة الإبداعية دون تحديد مدة زمنية لإصدارها.

وأوضحت "وكيل" أن "بعض الكتّاب يركنون إلى الكسل بحجة انتظار لحظة الإبداع الهاربة، والظروف المواتية لاستقبال الإلهام وحالة التجلي الفني".

تغوّل دور النشر

وتنتشر في الأوساط الثقافية العربية عبارات باتت متداولة بكثرة عن مظلومية يعاني منها كتّاب شباب بسبب تأكيدهم على تغول دور النشر، موجهين أصابع الاتهام إلى القائمين عليها، بأنهم يركزون بشكل مفرط على "الربح المادي دون إعطاء الكاتب حقوقه".

وعن تجربتها مع دور النشر لدى نشرها باكورة أعمالها الشعرية "في حضرة النجوم" (2016)، وجهت "وكيل" اتهاما لبعض دور النشر بأنها "تستغل المواهب وآمال الشباب في الشهرة والمشاركات الدولية".

وقالت وكيل: "يجب على الكتّاب الشباب توخي الحذر لدى تعاملهم مع دور النشر، إذ يلجأ بعضهم إلى الاحتيال المادي تحت مسميات عدة، منها دعم المواهب الشابة أو التركيز على القيم الإبداعية، لتستحوذ تلك الدور على مجمل الربح المادي، دون حصول الكاتب على أي نسبة من الربح، بل على العكس يطالبونه بدفع مبالغ معينة لنشر نتاجه".

وأضافت: "يعاني الكتّاب الشباب أيضا من تقصير دور النشر في التسويق والترويج للمواهب، وحرمان بعض المؤلفات من المشاركة في المعارض الدولية، وغالبا ما تكون غاياتهم تجارية بحتة دون الاهتمام لإبداع الكاتب ورسالته السامية".

من جانبه، قال الكاتب والمسرحي العراقي عبد الله جدعان: "بصراحة، الكاتب العربي يمر بأزمة في نشر إبداعه سواء أكان ورقيا أم إلكترونيا، فهناك مهرجانات كثيرة تختص بجميع المجالات الأدبية، وكثير منها يخضع لمعايير سطحية وربما علاقات شخصية، وهذا أيضا وجدته في كثير من إدارات المجلات في الوطن العربي".

وأضاف في حديثه لـ"إرم نيوز": "الأكثر إساءة هي دور النشر التي تفكر دوما بالجانب المادي الربحي على حساب جهد وتعب الكاتب، حيث يفترض للكاتب أن يحصل على مبلغ إزاء النشر لكن المعادلة معكوسة وأصبح أصحاب الدور يتفننون في أخذ المال، بحجة حفل التوقيع أو تصميم الغلاف".

وشدد "جدعان" على ضرورة تبني المؤسسات الرسمية للمواهب الشابة، مؤكدا أن "الكاتب العربي سيبقى ضحية لدور النشر وإدارات المجلات ما لم تهتم المؤسسات الرسمية العربية بالمحتوى الإبداعي".

وأوضح جدعان: "في الدول الغربية نلاحظ العكس تماما، فالاهتمام ملحوظ بالجانب الإبداعي ويحظى المنجز الأدبي والثقافي بتسهيلات وخدمات كثيرة، على غرار ما نلحظه من اهتمام كبير بأدب الطفل".

تعميم

وأمام تلك الاتهامات التي يتبناها كثير من الكتّاب، ينتقد الجانب الآخر المتمثل بدور النشر العربية، أسلوب التعميم في إطلاق تلك الاتهامات.

وقال الكاتب والناشر المصري أسامة إبراهيم سلمان، إن "كثيرا من تلك الأحكام، الإيجابية منها والسلبية، تندرج تحت التعميم مع غياب النهج العلمي في النقد".

وقال سلمان، في حديث خاص لـ"إرم نيوز"، إن "وصف جميع دور النشر بأنها تركز على الجانب المادي ولا تروج بطريقة احترافية وتستغل المواهب المغمورة، أحكام بعيدة عن الصحة على أرض الواقع، ومن الظلم بالتأكيد تعميم الاتهامات على جميع دور النشر".

وتساءل "سلمان"، وهو مؤسس دار "النخبة" المصرية، مستنكرا: "هل يصح مثلا أن نصف جميع الصحف أو القنوات الفضائية كلها بأنها تعطي أولوية للإعلان على حساب ما يفيد المشاهد؟.. هل يصح مثلا أن نتهم جميع المطاعم بأنها تقدم أطعمة مضرة بالمستهلكين وتهتم بالربح على حساب الجودة؟ وقس على ذلك جميع المؤسسات التي تقدم خدمات للناس".

ارتفاع التكاليف

وأضاف: "صحيح أن عددا من دور النشر يصدق عليها مثل هذه الاتهامات، لكن من غير المعقول ولا الإنصاف أن نعممه على الجميع. ومعلوم أن دور النشر تعاني أشد المعاناة من ارتفاع تكاليف الإنتاج والخامات الأولية، ناهيك عن تكاليف المشاركة في المعارض الدولية".

وأشار سلمان إلى حالة الركود التي تشوب مبيعات الكتب في العالم العربي، لتواجه دور النشر مآزق مختلفة، تفاقمت بعد انتشار وباء كوفيد-19".

وأوصى "سلمان" بضرورة أن "يتضامن الجميع، وسائل الإعلام، والمؤلفون، وأصحاب دور النشر، للمساعدة في إنقاذ صناعة النشر من كبوتها الحالية، بدلا من تبادل الاتهامات. وفي الوقت ذاته يجب على دور النشر التعامل بشفافية وصدق، مع البحث عن وسائل جديدة تناسب العصر في الترويج والتسويق، ومساعدة المواهب الشابة بما يصب في المحصلة في مصلحة الجميع".

عدم اكتراث

ويسرد الشاعر والناشر السوري فايز العباس لـ"إرم نيوز" تجربته مع دور النشر قبيل إطلاق دار نشره الخاصة، تحت اسم دار "نرد" في ألمانيا، قائلا: "ككاتب كنت أطمح لنشر كتبي، وقابلتني دور النشر بكثير من عدم الاكتراث، بل كان الاهتمام منصبا على تكلفة الطباعة فحسب، حيث أجلت النشر، وحين أيقنت عدم جدوى الانتظار اضطررت أخيرا لدفع تكاليف عالية نسبيا".

ولدى سؤاله عن المكاسب التي حصل عليها، أشار العباس إلى أن "مشاركة هذه الدور في المعارض كافية، وليست هناك وسيلة ترويج سوى المشاركة في المعارض، فعندئذ نستطيع قياس جهدها وتقييمه، إذ يقتصر عادة على مباركة الأصدقاء في مواقع التواصل الاجتماعي واقتناء الكتاب من بعض من استطاع الوصول إلى المعرض، وهذا أقصى ما تقدمه دور النشر حاليا للأسف".

أما عن تجربته كناشر، فقال العباس: "بعد إطلاقنا للدار سعينا إلى التدقيق في أحقية الكتّاب في النشر، وما يحققه المنتج من حالة فنية وقيمة إبداعية، آخذين بعين الاعتبار أن العملية برمتها تصب في إطار التعاون غير الربحي، بحيث نتقاسم مع الكاتب الأجور الحقيقية لعملية الطباعة والنشر، وصولا إلى تقاسم الأرباح بنسب متفق عليها بين الدار والكاتب".

وأضاف: "نعتمد في ترويجنا على مواقع التواصل بجميع مخرجاتها، فضلا عن المعارض، والمكتبات، ومراكز التوزيع التي نستطيع الوصول إليها. وكوننا مؤسسة غير ممولة، فلسنا معنيين بنشر ما لا يحقق الحد الأدنى من الشروط الآنفة، سواء كان الكاتب مغمورا أو مشهورا".

تراجع

ونوه إلى التراجع الملحوظ في مكانة الكتاب الورقي في الشارع العربي عموما، الذي يعود أحد أبرز أسبابه إلى استهتار كوادر دور النشر - إن وُجدت - بالقارئ وبالكاتب على حد سواء".

ورأى "العباس" في حديثه لـ"إرم نيوز"، أن "إغراق الساحة الثقافية بالغث والسمين كان له أثر سلبي بالغ على ثقة القارئ بالمنتج الأدبي عموما، ولكن، هل نستطيع تعميم ذلك على جميع دور النشر! أظن ذلك مجانبا للصواب".

تراجع الذائقة الفنية

ومن زاوية أخرى، يُلحظ أن تراجع الذائقة الفنية العامة دفع بعض الكتّاب إلى مواكبة "السوق" بخفض قيمة المنتج الإبداعي والنزول بالمستوى الفكري واللغوي، بحثا عن الربح السريع.

وبدلا من الارتقاء بالذائقة العامة، من خلال تقديم أفكار جديدة ونماذج فنية راقية، يتجه بعض الكتّاب إلى تقديم مواد تشوه الفن ومؤلفات دون المستوى المطلوب، ما يُصعِّب على الجمهور مواكبة الفن الإبداعي الراقي.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com