في "دفاتر الوراق" للروائي جلال برجس.. شخصيات مسحوقة وواقع اجتماعي سوداوي
في "دفاتر الوراق" للروائي جلال برجس.. شخصيات مسحوقة وواقع اجتماعي سوداويفي "دفاتر الوراق" للروائي جلال برجس.. شخصيات مسحوقة وواقع اجتماعي سوداوي

في "دفاتر الوراق" للروائي جلال برجس.. شخصيات مسحوقة وواقع اجتماعي سوداوي

يستعرض الروائي الأردني جلال برجس، حياة العديد من الشخصيات المسحوقة في الواقع العربي، مفندا لكل منها، صراعها المأساوي مع الواقع الاجتماعي العربي، في روايته "دفاتر الوراق" الصادرة عن  المؤسسة العربية للدراسات والنشر، والفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية"البوكر"2021.

وتبرز الرواية بعض الإشكاليات العالقة في المجتمعات العربية، وتتناولها بطريقة الطرح لا وضع العلاج، حيث يختبر برجس المصير المُغرِق في السوء الذي يعانيه الشباب العربي، في مواجهة تحديات الواقع.

وبين ما يلقيه الصراع الاجتماعي من ثقل على كاهل الشباب، وقوة الدفع المستمرة من المجتمع، المودية إلى العزلة والأمراض النفسية. كما يسلط الروائي الضوء على الترهل في مؤسسات الخدمة الاجتماعية، والمحسوبيات فيها، فيما يكشف عن التحرش الذي يطال الأطفال اللقطاء في الملاجئ العامة، وما ينطوي عليه من حالات اغتصاب كارثية.

ويظهر أيضا مكابدة الأسرة العربية في انتزاع لقمة العيش، ويضيء على الفساد السياسي، كما يصف الفقراء والمشردين، معليا أصواتهم المطموسة، وعوالق أخرى يلمح الكاتب إليها خلال 366 صفحة من القطع المتوسط، قسمها إلى عدة فصول.

شخصيات مجروحة

وتبدو شخصيات برجس كلها مجروحة، منغمسة في التعب والخوف من المصير، ومشحونة بذكريات سيئة، والطاقة المتبقية لديهم لا تكفي للخروج إلى عتبة الأمان. فلا الماضي كان باقة ورد خرجوا من خلالها، ولا الحاضر يحمل الأمل في المستقبل.

فنجد شخصية العمل الرئيسة "إبراهيم الوراق" بطيبعة مهتزة، وتوليفة من العقد النفسية، والبناء المفرغ من الذات الحقيقية. فهو المثقف المهووس بالأبطال المميزين عبر الروايات على مراحل الزمن المتنوعة. شخص يعيش بأكثر من ذات في داخله، كلها وهمية، احتشدت داخله، حتى صار لا يتمكن من معرفة  حقيقته. ويعيش الوراق بجسد يحتوي على نقيضين، فما بين ظاهره وباطنه، تكمن فلسفة الرواية، وتتجرد الإشكاليات الاجتماعية المقصودة، تبعا لحدة العراك الداخلي الذي يحياه إبراهيم.

وجراء إزالة كشك بيع الكتب الخاص به، من قبل الحكومة، يصبح الوراق بلا مصدر رزق، ويتحول القهر داخله إلى انتفاخ غريب في بطنه، ليدخل في صراع سيكولوجي سوريالي، ينتهي به إلى كونه مجرما، مستمعا لصوت داخلي مجهول، يحضه على السرقة عدة مرات. من خلال هذا التحول في شخصيته، يفند برجس الكثير من الإشكاليات الاجتماعية العالقة.



ولا يتوقف الأمر عند شخصية إبراهيم، فكانت شخصية ليلى على جانب موازٍ، تحمل قضية متعددة الرؤوس. فهي الفتاة الخارجة من ملجأ اللقطاء، هروبا من عار الاغتصاب من قبل مرشدتها، ظانّة أن الحياة في الخارج أكثر براحا، وبمجرد خروجها، ستفتح لها نوافذ من الورد. لكن الصدمة تمسح شخصية ليلى، وتحيلها مع الوقت إلى إنسانة مقهورة، متخفية على هيئة ذكر، وترافق فتيات جرفتهم الحياة إلى بيوت الدعارة، بعد أن كنّ عفيفات.

ولا يكتفي السرد بشخصيتين، حيث يتناول العديد من الأمثلة المسحوقة اجتماعيا وعلى مراحل زمنية مختلفة، فيضيء برجس على شخصية الصحافية التي افتقرت للحب والدفء، لسنوات طويلة، حتى فقدت جدوى العمر.

لكن المصادفة التي صاغها الكاتب، جعلت لقلبها موعدا مع الفرح، حين صار إبراهيم هو أمانها، وبعد أن وقعت أوراقها بين يديه، منحته هذه الأوراق تاريخ حياته، وأصبح سلوك السرد بذلك كأنما رواية تتخلق داخل رواية، فسرد الكاتب شخصية جاد الله والد إبراهيم، الذي يعيدنا إلى زمن النكبة الفلسطينية، 1948، كمواطن يعيش في الأردن، ويسافر ليتعلم الطب في روسيا، ليعود دارسا الفلسفة، مخيبا ظن والده، ويصير فيما بعد معلّما ثوريا، ثم ملاحقا للحكومة، ويتعرض للاعتقال والتعذيب، ليظهر أثر مرضه النفسي، من بعد ذلك، على ابنه طيلة العمر.

أصوات حرة

ويفتح برجس مسرح السرد لشخصياته، ببعد بوليفوني حر، فلكل شخصية الحق في سرد قصتها، وبطريقة لغوية مغايرة، ومشاعر مختلفة، إذ ليست مشاعر الأنثى كالرجل، وليست مشاعر الفتاة في أول عمرها كليلى، مثل صحافية تمرنت على الوجع لعقدين إضافيين، فقد أتقن الروائى نقل ذلك بكل جرأة.

واستطاع برجس بناء شخصياته بطريقة ذكية، حيث سارت بخطى هادئة، نحو منطقة ناضجة من السرد. وصحيح أن لكل شخصية تاريخها مع البؤس، وطريقها الخاص، لكن الكاتب ينجح في تخليق مصادفات تصنع التقاطع والصراع بين الشخصيات.

ويمكن القول إن حبكة العمل تمتلك الذكاء وجمالية المصادفات، إلا أن بناء المصادفة بحد ذاته مبالغ فيه. كما أن خطة سرقة البنك التي نفذها إبراهيم لم ترقَ للخطة الذكية للسرد، فكانت تقليدية مستسهلة.

لغة برجس كانت كلاسيكية بعض الشيء، مختلطة بجمل شعرية حداثية، وجاءت لغته ممتلئة بتفاصيل، بعضها غير مهم للعمل، ولربما كان بإمكانه صياغة حبكته وأحداثه، بعدد صفحات أقل، ففي مرات عدة، أغرق الكاتب في وصف البيئة والمكان، وهو ما لا يخدم تقنية السرد.



خبرة معرفية

الرواية تظهر مقدرة معرفية عالية لدى برجس، وقدرة على تحوير الكثير من الشخصيات الروائية السابقة ضمن سرده، فاستضاف من خلال باطن شخصية إبراهيم، البطل سعيد مهران من رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، وكوازيمودو بطل "أحدب نوتردام"، والأمير ليون ميشكين من رواية الأبله لديستوفسكي، وزيفاكو الروائي الشهير، وغيرها من الشخصيات. كلها كانت أفكارا ذكية ساعدت في طرح صفة تقمص الشخصيات التي انطبعت على إبراهيم، وساهمت في تيهه حتى النهاية.

من أجواء السرد:

"غبي، لا ترى إلا ما تُريد أن تراه. هل تعتقد أن العالم يسير وفق ما رأيته على أرض الواقع، وعلى شاشة التلفاز، وفي كتبك اللعينة؟ الحياة أعقد مما تتخيل، هناك دماء تُسفك، واحتيالات كثيرة تحدث، وتصفيات بأشكال عديدة لا يعلم عنها إلا عدد قليل، أنت ومن هم على شاكلتك ترون الساسة يبتسمون وراء الميكروفونات يتشدقون بأكبر كذبة عن الوطن، والأمن الاجتماعي، وتصدقونهم".

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com