رغم تدميرها على يد المغول قبل 762 عاما.. "بيت الحكمة" في بغداد تهدي العالم الرياضيات الحديثة
رغم تدميرها على يد المغول قبل 762 عاما.. "بيت الحكمة" في بغداد تهدي العالم الرياضيات الحديثةرغم تدميرها على يد المغول قبل 762 عاما.. "بيت الحكمة" في بغداد تهدي العالم الرياضيات الحديثة

رغم تدميرها على يد المغول قبل 762 عاما.. "بيت الحكمة" في بغداد تهدي العالم الرياضيات الحديثة

قبل قرون، قدمت مكتبة إسلامية مرموقة الأرقام العربية إلى العالم، وعلى الرغم من اختفاء المكتبة منذ فترة طويلة، إلا أن ثورتها الرياضية غيرت عالمنا.

لم يعد هناك أثر لمكتبة بيت الحكمة التي دُمرت في القرن الثالث عشر، ولذلك لا يمكن التأكد من موقعها أو شكلها، ولكن هذه الأكاديمية المرموقة كانت قوة فكرية كبرى في بغداد خلال العصر الذهبي الإسلامي، ومهد المفاهيم الرياضية مثل الصفر المشترك والأرقام العربية المستخدمة على نطاق واسع في العصر الحديث.

ووفقا لشبكة "بي بي سي" البريطانية، تأسس بيت الحكمة كمجموعة خاصة للخليفة هارون الرشيد في أواخر القرن الثامن ثم تحول إلى أكاديمية عامة بعد حوالي 30 عاما، ويبدو أنه جذب العلماء الذين جذبهم الفضول الفكري النابض بالحياة في المدينة وحرية التعبير، من جميع أنحاء العالم نحو بغداد، حيث كان يُسمح لجميع العلماء المسلمين واليهود والمسيحيين بالدراسة هناك.

أصبح بيت الحكمة في نهاية المطاف، وهو أرشيف هائل يشبه في حجمه المكتبة البريطانية الحالية في لندن أو مكتبة بيبليوثك الوطنية في باريس، مركزًا لا مثيل له لدراسة العلوم الإنسانية والعلوم، بما في ذلك الرياضيات وعلم الفلك والطب والكيمياء والجغرافيا والفلسفة والأدب والفنون، إضافة إلى بعض الموضوعات المشكوك فيها مثل الخيمياء وعلم التنجيم.

ويحتاج تخيل هذا النصب العظيم خيالا واسعا، حيث دفعت هذه الأكاديمية بنهضة ثقافية غيرت تماما مسار الرياضيات.

دُمر بيت الحكمة في حصار المغول لبغداد عام 1258، ووفقا للأسطورة، تم رمي العديد من المخطوطات في نهر دجلة حتى تحولت مياهه إلى اللون الأسود من الحبر، ولكن الاكتشافات التي تمّت هناك أدخلت لغة رياضية مجرّدة وقوية اتبعت لاحقا من قِبل الإمبراطورية الإسلامية وأوروبا والعالم بأسره.

ويقول جيم الخليلي أستاذ الفيزياء في جامعة ساري: "لا ينبغي أن تهمنا التفاصيل الدقيقة مثل مكان أو تاريخ إنشاء بيت الحكمة، فأكثر الأمور إثارة للاهتمام هو تاريخ الأفكار العلمية نفسها، وكيف تطورت فيها."

ويشمل تتبع إرث بيت الحكمة الرياضية النظر إلى عصر النهضة الإيطالية، الذي أتى بعد مئات السنين من دمار المكتبة، حيث كان خبير الرياضيات الأبرز في أوروبا ليوناردو دا بيزا، الذي عُرف بعد وفاته باسم فيبوناتشي.

وُلد عالم الرياضيات الإيطالي في بيزا عام 1170، وتلقى تعليمه الأساسي في بوجيا، وهي جيب تجاري يقع شمال أفريقيا الساحلية، وفي أوائل العشرينيات من عمره، سافر فيبوناتشي إلى الشرق الأوسط، حيث جذبته أفكار جاءت غربًا من الهند عبر بلاد فارس، وعندما عاد إلى إيطاليا، نشر فيبوناتشي "ليبر أباتشي"، وهو واحد من أوائل الأعمال الغربية التي تصف النظام الرقمي الهندوسي العربي.

عندما ظهر ليبر أباتشي لأول مرة عام 1202، كانت الأرقام الهندوسية العربية معروفة لدى عدد قليل من المثقفين فقط، وكان التجار الأوروبيون والعلماء لا يزالون يتشبثون بالأرقام الرومانية، ما جعل الضرب والقسمة مرهقة للغاية.

أظهر كتاب فيبوناتشي استخدام الأرقام في العمليات الحسابية، التقنيات التي يمكن تطبيقها على المشاكل العملية مثل هامش الربح، وتغيير الأموال، وتحويل الوزن، والمقايضة والفائدة.

وكتب فيبوناتشي في الفصل الأول من عمله الموسوعي، في إشارة إلى الأرقام التي يتعلمها الأطفال الآن في المدرسة "أولئك الذين يرغبون في معرفة فن الحساب، ودقته وإبداعاته، يجب أن يعرفوا الحساب بأرقام اليد، وبهذه الأرقام التسعة وعلامة الصفر، يمكن كتابة أي رقم"، وفجأة، باتت الرياضيات متاحة للجميع في شكل قابل للاستخدام.



إلا أن عبقرية فيبوناتشي العظيمة لم تكن نتيجة إبداعه في علم الرياضيات فقط، بل فهمه العلم الذي عرفه العلماء المسلمون لقرون، وصيغهم الحسابية، ونظامهم العشري، والجبر، وفي الواقع، اعتمد ليبر أباجي بشكل حصري تقريبا على خوارزميات عالم الرياضيات العربي محمد بن موسى الخوارزمي في القرن التاسع، الذي قدمت أطروحته الثورية، لأول مرة، طريقة منهجية لحل المعادلات التربيعية.

وبسبب اكتشافاته في هذا المجال، غالبا ما يشار إلى الخوارزمي على أنه أبو الجبر، وفي عام 821 تم تعيينه عالم فلك وأمين مكتبة بيت الحكمة.

وشرح الخليلي: "قدمت أطروحة الخوارزمي العالم الإسلامي لنظام الأرقام العشرية، وساعد آخرون، مثل ليوناردو دا بيزا، في نقلها عبر أوروبا".

وهكذا كان تأثير فيبوناتشي التحويلي على الرياضيات الحديثة إرثا يعود الكثير من الفضل فيه إلى الخوارزمي، ما ربط رجلين تفصل بينهما حوالي 4 قرون من خلال مكتبة قديمة، حيث وقف عالم الرياضيات الأكثر شهرة في العصور الوسطى على كتف مفكر رائد آخر، والذي حقق انفراجاته الثورية في مؤسسة مبدعة في العصر الذهبي الإسلامي.

وربما يميل بعض المؤرخين إلى المبالغة في نطاق وهدف بيت الحكمة، بسبب قلة المعلومات المعروفة عنه، ما يعطيه وضعا أسطوريا يتعارض إلى حد ما مع السجلات التاريخية الضئيلة المتبقية.

ويقول الخليلي: "يجادل البعض بأن بيت الحكمة لم يكن عظيما كما يعتقد الكثيرون، ولكن ارتباطه برجل مثل الخوارزمي، وعمله في الرياضيات وعلم الفلك والجغرافيا، هو بالنسبة لي دليل قوي على أن بيت الحكمة كان أقرب إلى أكاديمية حقيقية، وليس مجرد مستودع للكتب المترجمة".

وبذل العلماء والمترجمون في المكتبة الكثير من الجهود حتى تكون أعمالهم في متناول الجمهور، يقول جون بارو غرين، أستاذ تاريخ الرياضيات في الجامعة المفتوحة في المملكة المتحدة: "كان بيت الحكمة مهما للغاية، لأنه من خلال الترجمات التي كانت هناك، والتي ترجمها العلماء العرب من اليونانية إلى العربية، تشكل حجر الأساس لفهمنا الرياضي، فقد كانت المكتبة نافذة على أفكار الماضي بقدر ما كانت موقعًا للابتكار العلمي".



وقبل وقت طويل من نشأة نظامنا العشري الحالي، ونظام الأرقام الثنائية الذي يدخل في برمجة حواسيبنا، وقبل الأرقام الرومانية، وقبل النظام الذي يستخدمه سكان بلاد الرافدين، كان البشر يستخدمون أنظمة الحصيلة المبكرة لتسجيل الحسابات، وفي الوقت الذي قد نجد هذه الأنظمة غير كافية لاحتياجات المعاصرة، إلّا أن التمثيلات الرقمية المختلفة يمكن أن توفر معلومات قيمة عن البنية والعلاقات والسياقات التاريخية والثقافية التي انبثقت منها.

فهي تعزز فكرة القيمة المكانية والتجريد، ما يساعدنا على التوصل لفهم أفضل لكيفية عمل الأرقام، ويقول بارو غرين "تبين هذه البيانات أن الطريقة الغربية لم تكن الطريقة الوحيدة، فهناك قيمة حقيقية في فهم أنظمة الأرقام المختلفة".

وشرح بارو: "عندما أراد تاجر في العصور القديمة كتابة اثنين من الأغنام، على سبيل المثال، كان يرسم صورة لاثنين من الأغنام، ولكن هذا الأسلوب غير عملي إذا أراد أن يكتب 20 من الأغنام، لذلك تمت إضافة علامات القيمة المكانية، والتي تستخدم لجمع الأرقام لتحديد قيمة كبيرة".

واستمرت الأرقام الرومانية بطريقة ما على الرغم من ظهور نظام الخوارزمي، الذي اعتمد على موقع الأرقام لتمثيل الكميات، ومثل المعالم الشاهقة التي حُفرت عليها، تجاوزت الأرقام الرومانية الإمبراطورية التي أنتجتها، سواء عن طريق الصدفة أو القصد.

ويصادف هذا العام الذكرى السنوية الـ850 لميلاد فيبوناتشي، ويمكن أيضا أن تكون اللحظة التي هددت بهدم مسيرة الأرقام الرومانية، ففي المملكة المتحدة، تم استبدال الساعات التقليدية التي تحمل الأرقام الرومانية بساعات رقمية تسهل قراءتها في الفصول الدراسية المدرسية، خوفا من أن الطلاب لم يعودوا قادرين على معرفة الوقت بشكل صحيح.



وفي بعض مناطق العالم، حذفتها الحكومات من علامات الطرق والوثائق الرسمية، في حين ابتعدت هوليوود عن استخدام الأرقام الرومانية في عناوين سلاسل الأفلام، وتخلى الدوري الأمريكي لكرة القدم عن الأرقام الرومانية في مباراة السوبربول الخمسين، حتى لا تربك المشجعين.

إلا أن التحول العالمي بعيداً عن الأرقام الرومانية يكشف عن السياسة التي تحكم أي مناقشة أوسع نطاقاً حول الرياضيات، حيث تقول لوسي ريكروفت سميث، الباحثة في مجال الرياضيات في جامعة كامبريدج: "تتأثر القصص التي نرويها، وأشكال المعرفة التي نخلدها في شكل التعلم الرسمي، بتراثنا الاستعماري الغربي، ففي حين إن ويلز وإسكتلندا وأيرلندا لا تدرج الأرقام الرومانية في أهدافها التعليمية، والولايات المتحدة ليست لديها متطلبات قياسية، وتنص إنجلترا صراحة على أن الطلاب يجب أن يكونوا قادرين على قراءة الأرقام الرومانية حتى 100.

فبينما يُعرف فيبوناتشي باكتشافه النمط الشهير المسمى على اسمه، والذي يظهر في مختلف جوانب الطبيعة، ويدخل في الأدب والسينما والفنون البصرية، والهندسة المعمارية، إلا أن مساهمته الرياضية الأكثر ديمومة، هي شيء نادراً ما يتم تدريسه في المدارس، حيث تبدأ تلك القصة في مكتبة بيت الحكمة منذ ما يقرب من ألف عام، في وقت كانت فيه معظم المجتمعات المسيحية الغربية في ظلام فكري، وهي حكاية جديرة بتفكيك النظرة الأوروبية لمركزية الرياضيات، وأن تسلط الضوء على الإنجازات العلمية للعالم الإسلامي، وتشير لأهمية الكنوز العددية التي تعود لزمن بعيد.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com